أغصان الكرمة العدد (4) يناير 2021
أما وأنَّ هذه السطور تُخطُّ وأيام هذا العام قد بدأ خيط دُخانها ينْسَلُّ؛ وقبلها وبعدها ما زالت السِمة المُميزة لهذا العام هي التساؤل! فالكثير من التساؤلات قد طُرحت في بداية العام ونهايته، بل وعلى امتداد أيامه وشهوره! أسئلة كثيرة كُلها استُهِلت بـ لماذا…؟ وما السبب…؟ وكيف…؟، وتطورت إلى ما هو أبعد من التطبيق، وصولًا إلى الغاية والعِلّة؛ لكن بقي السؤال المطروح بقوةٍ، بل والمتفق عليه في نهاية عامنا هذا هو: هل -في هذا العام- ما يستحق الشُكر ؟
تفرقت الإجابات وتعددت، ما بين وجوب الشُكر لأجل السلامة والنجاة، وبارقة الأمل التي لاحت في نهاية العام بظهور اللقاح، ومابين السخط على عام أجدب، أكل كل ثمرٍ ونبتٍ أخضرٍ، ورحل ومعه الكثير من الأحبَّة! صحيحٌ أنه لا يمكننا أن نغفِل أحزاننا على من فقدنا –وهُم الغوالي!- وربما حتى لا نستطيع أن نتشبث باللقاح الجديد ومازلنا لا نأمن جانبه! فهل معنى هذا أنه لا شيء يدعو للشُكر؟! هل نضب جود الله علينا مما يُمكن أن نشكُره لأجله؟!
دعني أخبرك يا صديقي أن لدينا أمرًا عظيمًا لنشكُر الله لأجله –غداةً وعشيّةً- فالله قد جاد علينا بأثمن ما يستوجب دوام شُكرنا طيلة أيامنا. جاد الله علينا بذاته، بالكلمة المُتجسِّد، ابنه الوحيد، خبر الله المُعلن لنا؛ فهل بعد هذا الجود جودٌ! وهل بعد هذه الهبة يُسألُ عن عِلَّة للشُكر؟! تعالى يا صديقي نرى سويًّا كيف أدرك وتجاوب أجدادنا اللاهوتيّون العَرب مع جود الله وتفضله بتجسُّده.
الإله مُتَجَسِّدًا_________________________
تُعلِنُ مسيحيّتنا أنّ يسوع المسيح كلمة الله، الكائن منذ الأزل؛ هو نفسه قد تجسَّد (تأنَّس) من المُطوَّبة العذراء مريم، وصار إنسانًا تامًّا، دون أن يتخلّى عن ألوهيته: “اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، …” (رسالة يوحنّا الأولى 1: 1). وقد قاومت الكنيسة –في مهدها- العديد من الهرطقات والبِدع التي زعمت أنّ المسيح لم يتّخذ جسدًا حقيقيًّا بل “مظهر جسد” أو “شبه جسد”، منها مثلًا: الدوسيتيّة Docetism[1]، الغنوسيّة[2]، الابيونية[3]، البنوية[4]، الانتحالية Modalisme[5]، وغيرها[6]؛ وفي حقبة لاحقة في بداية الإسلام، احتلّ موضوع التجسّد موقعًا مُميّزًا في الجدل المسيحيّ الإسلاميّ؛ ونرى هذا واضحًا في مُجادلة البطرك طيموثاوس الأول والخليفة المهدي، ومحاورة الخليفة المأمون والبطرك ثاوذورُس أبو قُرّة، وكذلك الراهب إبراهيم الطبرانيّ في محاورته التي جرت في بلاط الأمير عبد الرحمن الهاشميّ، وما كتبه أبو عيسى الورّاق والكِنديّ، وتقدم لهما بالرد الفيلسوف والمنطيق المسيحي يحيى بن عَدي التكريتيّ، وغيرهم الكثير والكثير؛ وما زال –هذا الخلاف- يتصدّر إلى يومنا الحاضر لائحة الخلافات اللاهوتيّة، التي لا يمكن التوصّل فيها إلى نقاط مشتركة ما بين المسيحيّة والإسلام. فالقول بأنّ كلمة الله قد تجسّد إنسانًا، وبأنّ الكلمة هو إله تامّ، وإنسان تامّ، قول لا يستسيغه الفكر الإسلاميّ، الذي يعتبر القرآن كلام الله القديم غير المخلوق. أمّا المسيحيّة فتقول إنّ المسيح، كونه كلمة الله المتجسّد، قد حلّ فيه مِلء اللاهوت جسديًّا.[7]
التجسّد بيان الجود وكمال التشريف______
أجمع اللاهوتيّون المسيحيّون العرب -في كلامهم عن تجسّد الكلمة- على القول بأنّ التجسّد هو قمة بيان الجود الإلهيّ، مُستخدمين في ذلك القياس الأرسطيّ. فها هو الفيلسوف والمنطيق المسيحيّ العَربيّ أبو زكريّا يحيى بن عَدي التكريتيّ (ق10)[8] يقول: “إنّ أفضل الجائدينَ هو الجائدُ بأفضلِ الذواتِ. وأفضل الذواتِ ذاتُ البارئ. فلزم جود البارئ بذاته علينا، وهذا كان باتّصاله بنا.” فالله الذي هو أكرم الكرماء، لا بدّ أن يجود إذ يجود بأجود الموجودات؛ لذا جاد بذاته -على طبيعتنا البشريّة- لأنّها أفضل الذوات؛ فاتّحد بها إذ صار إنسانًا، تشريفًا لها وارتقاءً بها إلى الحضرة الإلهيّة.
ويؤكد على ذلك أيضًا بولس الأنطاكيّ[9] أسقف صيدا (ق12) إذ يقول: “ولأنّ الله جوّادٌ، وجب أن يجودَ بأجلّ الموجوداتِ. وليس في الموجوداتِ أجود من كلمته، يعني نطقه. ولذلك، وجب أن يجود بكلمته حتى يكون أجودُ الأجوادِ، وقد جاد بأجود الموجوداتِ. فعلى هذا، وجب أن يتّخذ ذاتًا محسوسةً يُظهر منها قدرتَه وجودَه. ولما لم يكن في المخلوقات أشرف من الإنسان، اتّخذ الطبيعةَ البشريةَ من السيدة مريم المُطهرة، المصطفاة على نساء العالمين“.
ويشرح ثاوذورُس أبو قرّة[10] (ق9) أنّ السبب الأوّل للتجسّد هو: أن يقترب الله من الإنسان، فيتمكّن الإنسان من التعرّف إلى الله؛ والسبب الثاني -الذي لا يقلّ أهمّيّة- هو: فداء الإنسان وإنقاذه من سطوة إبليس. لذلك يقول: “أرسل الله كلمته وروحه إلى مريم العذراء الطاهرة، فحملت نور الله، الذي هو من الله، وظهر مُتجسّدًا … فصارت كلمة الله شبه إنسان بلا خطيئة، وهو إله. المسيح كلمة الله وروحه، وإنّه من ذاته وجوهريّته، خالق غير مخلوق“.
وفي هذا قال بولس البوشي[11]أسقف مصر (ق13): “اللهُ جوّادٌ متفضّلٌ، لم يزل في جوهريته -كما يليقُ بصلاحه- بل، أظهرَ التفضّلَ بالفعلِ، لمّا خلق البَريّة؛ ليس لحاجةٍ منه إليها، بل تفضّلًا منه عليها. ومن العدمِ إلى الوجودِ أحضرها، وهيّأ لها ما تحتاج إليه، لكرمه وجوده؛ ليُعرف أنّه متفضلٌ منّانٌ. وهكذا، تعاهد البَريّةَ بالخلاصِ، ليس لحاجةٍ منه إلى التّجسّدِ، بل تفضّلًا منه عليها.”
أمّا عمّار البَصريّ[12] (ق9)، فيَعتَبِرُ أنّ التجسّد هو غاية التشريف الإلهيّ للإنسان، فيقول: “إنّ جود الله وكرمه وصلاحه وجبروته الذي دعاه إلى أن أبدع وأنشأ خلقه؛ هو الذي دعاه أخيرًا إلى استكمال إحسانه بتجسّده بشريًّا من خلقه. وذلك ليوجب للبشريّ بتجسده إيّاه، حظّ بنوّته، وسنا ربوبيّته.” فعمّار هنا يرى أنّ تجسّد الكلمة الإلهيّ هو: “…أشبه بفضل الله وجوده، وأبين لإكرامه إيّاهم وتشريفه لهم من ظهوره [في العهد القديم] في بيت حجارة [الهيكل] وتابوت خشب [تابوت العهد] وشجرة حقيرة [العُليقة] وسحاب“.
رفض التَجسُّد، شُحٌّ إنسانيّ______________
ينتقد اللاهوتيّون المسيحيّون العَرب مَن يرفضون تجسّد الكلمة، ويُرجعون هذا الرفض إلى البُخل الإنسانيّ في مُقابل جود الله عليه! فيقول يحيى بن عَدي في هذا: “وإذا كان اتصالُه بنا مُمكنًا، وكان لنا فيه ]أي: الاتصال به] غايةُ الشرف، وله فيه ]الله تعالى] كمالُ الجود، فلا يمنعه إلّا العجزُ أو البُخلُ. وهما من صفات النّقصِ، فهو يتعالى عنهما. فيجب اتصالُه بنا“. وأمَّا صديقنا عمّار البصريّ فيتسائل مُستنكرًا في هذا الإطار بقوله: “فَلِمَ يُرِيدُ خَالِقُكَ أَيُّهَا الإنْسَانُ بِكَ الشَّرَفَ وَالعلوَّ، وَأَنْتَ تُرِيدُ بِنَفْسِكَ السَّفَالَ ]الانحطاط] وَالدَّنَاءَةَ؟ وَلِمَ تَبْخَلُ لَهُ بِأَنْ يَبْلُغَ بِكَ غَايَةَ جُودِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَذَلِكَ لاَ يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ كَمَا لَمْ يُنْقِصْهُ مَا قَدَّمَ لَكَ مِنْ كَرَامَتِهِ، كَأَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُسَاوِيَهُ بِكَ فِي الْبُخْلِ!“
عيد الميلاد هو احتفالنا بتجسُّد الله، بجوده علينا بذاته، بتشريفه لنا بتأنُسه؛ فبعيدًا دقة عن تلك الرواية التي تُقدم من سالف الزمان عن تنازل الله ليولد في مذودٍ للبقرِ، بين بهائمِ الحظيرةِ! تعالى نحتفل هذا العام بجود الله علينا، وتشريفه لنا، الذي فاق كل تصوّرٍ، إذ جاد علينا بذاته، وشرفنا بتأنسه، ليتصل بنا! فهل مازلت يا صديقي لا تجد سببًا للشُكر في ختام 2020؟!
في الختام: أُصلي أن تكون قد تمتعت بجود الله، وشرفه وعُلوهِ الممنوح لكَ هبة في هذا العيد؛ فتُدرِكُ، وتشكُرُ، وتحيا به.
الحواشي _____________
[1]الدوسيتية: نادت بأن المسيح لم يكن بشرًا حقيقيًا لكنه بدا هكذا، وهو مفهوم منقول من التراث الفلسفيّ اليونانيّ، حيث رفض الفلاسفة أن يختلط الإله بالعالم المادي؛ لذا فالمسيح بدا لتلاميذه كأنه بشرًا وكأنه يجوع ويعطش ويحزن، وأن من صلب هو سمعان القيرينيّ شبيه يسوع.
[2] الغنوسيّة: تعلِّم الغنوسيّة كذلك بأن المادة شر وبالتالي فإن الاتصال بالمادة وبما هو مادي شر. وبالتالي يرفض الغنوسيون أن يأخذ المسيح جسداً ماديًا.
[3] الأبيونيّة: يؤمنون بأن يسوع هو مختار الله، النبيّ الحقيقيّ، ويرفضون ميلاده العذراوي ويقولون أنه ابن يوسف ومريم، كذلك يرفضون وجود المسيح السابق قبل التجسّد، وبناء على ذلك فهو لم يولد من الله، بل خُلِق كما خُلقت الملائكة ورؤساء الملائكة ولكنه أعظم منهما جميعاً في الدرجة أى أنهم يعترفون بناسوت المسيح ولكنهم ينكرون لاهوته.
[4] البنويّة: يعلّمون بأن يسوع لم يكن ابن الله بالطبيعة بل بالتبني، ومع أنهم ينادون بالميلاد العذراوي للمسيح إلا أنهم يرفضون أزليته.
[5] الانتحاليّة: ترجع لسابيليوس الذي وُلد في نهاية القرن الثاني ومات عام 261 م وهو ليبـي الجنسية تعلّم في روما واستقر بها. تقول الانتحاليّة أن الله أخذ شكل الآب في بداية الخلق، وفي التجسّد انتحل شكل الابن، وبعد ذلك انتحل شكل الروح القدس. أي أن سابليوس يؤمن بوجود شخص واحد إلهي قام بأدوار ثلاثة في ثلاث حقبات مختلفة من الزمن.
[6] راجع في ذلك، چون لوريمر، تاريخ الكنيسة، عصر الآباء من القرن الأول وحتى السادس، (القاهرة: دار الثقافة، 2013م)، ط1؛ ج- ويتلر، الهرطقة في المسيحيّة- تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحيّة، (بيروت: دار التنوير، 2010م)، ت: جمال سالم، ط2؛ حنا الخضري، تاريخ الفكر المسيحي، (القاهرة: دار الثقافة، 1981م)، ط1؛ كيرلس سليم بسترس وآخرون، تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، (بيروت: المكتبة البولسيّة، 2001م) ، جـ 1، ط1؛ مايكل پاركر، نظرة عامة على تاريخ المسيحيّة، (القاهرة: دار الثقافة 2019م)، ت: ماريانا كتكوت.
[7] راجع في ذلك، موريتس شتينشنيدر، أدب الجدل والدفاع في العربية بين المسلمين والمسيحيين واليهود، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة 2005م)، ت: صلاح عبد العزيز، م. محمد خليفة.
[8] أبو زكريا، يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا التكريتي: منطيق، وفيلسوف، ومترجم مسيحي عربي، صرف جلَّ عنايته للمنطق فلقِّب بالمنطقي. يبدأ القدماء بتعريفه بقولهم: “إليه انتهت الرئاسة في المنطق ومعرفة علوم الحكمة.”، ويضيف ابن النديم في الفهرست أنَّهُ: “كان أوحد دهره.”، وكان أحد أبرز المترجمين للتراث الفلسفي وخاصَّة عن السريانية إلى العربيَّة. وإلى جانب اشتهاره بالترجمة كان من أشهر المُدافعين عن العقيدة المسيحية، وله في ذلك العديد من المقالات في الثالوث والتجسد وغيرها، كما كثير الكتابة النسخ فقد كان عالي الهمَّة شديد الشَّغف بالعلم ومتابعة شؤونه، وقد بقي العديد من آثاره بخطِّ يده.
[9] بولص الأنطاكي: عاش في القرن الثاني عشر، من مواليد أنطاكية، ترهب وبعد فترة طويلة انتخب أسقف على صيدا.قام برحلة طويلة قادته إلى أراضي الرومان والقسطنطينية وروما، وخلال هذه الرحلة قابل الكثير من الشخصيات المهمة. كان متمكناً في الفلسفة الأرسطية واستعملها في دفاعه عن الدين المسيحي في محاوراته مع العلماء المسلمين.من أهم كتاباته التي وصلت إلينا نص يحتوي على خمسة مقالات أو رسائل عن العقيدة المسيحية، يردّ فيها الكاتب على أسئلة غير المسيحيين. يتألف النص من رسالة عقلية، ورسالة إلى الأمم واليهود، ورسالة إلى المسلمين، ومقالة في الفرق المسيحية المختلفة، وشرح عن رأي النصارى في التوحيد.
[10] ثاوذورس أبو قرّة: ولد في الرها، نحو 755م. درس الطب والمنطق والفلسفة، كما أتقن اللغات الثلاث: اليونانية، السريانية، العربية، وترك مؤلفات كثيرة بهذه اللغات. ترهب في دير مار سابا، وعند شغور كرسي حران الأسقفي اختاره بطريرك القدس أسقفاً عليها، سنة 795م. وفي حران سنة 829م التقى المأمون وجرت بينهما مجادلة حول إيمان المسيحيين. له مؤلفات عديدة موجهة إلى الإسلام، وعدة محاورات يجيب من خلالها على اعتراضات المسلمين.
[11] بولس البوشي: مُطران مصر. اشتهر في أواسط ق13، في عهد البطرك كيرلس بن لقلق، وحضر مجادلته عند الملك الكامل بن العادل بن أيوب. له كتابات عديدة منها في معرفة الإله المتجسد من القياس العقلي.
[12] عمَّار البصري: كاتب مسيحي عاش في القرن التاسع في مدينة البصرة. له كتابان: “البرهان”، “المسائل والأجوبة”، ويظهر في مقالاته جدالات مع المسلمين، يرد فيها على اعتراضاتهم حول العقيدة، وعلى بتحريف الإنجيل.