المدونة

ذكريات خاطئة

لم تكن المتاعب التي أحياها وليدة اللحظة… بل كانت حصاد عمر بأكمله…… كنت أنشد الحرية… أنشد الانسجام والتوافق. أرنو إلى التوازن بين الجسد والروح…… لكني ضللت الدرب… أخطأت النظر… لم تصب أعمالي هدفها. فقد كانت ثمة أشياء من التهور تصيب تصرفاتي بالسوء. كنت دائمة الانتقاد كثيرة التزمت والتبرم وكان الضيق يرسم صورة مجسمة لحياتي القاحلة، أضف إلى ذلك ما تدخر به حياة الفقر والبؤس اللتين أرزح تحت نيرهما مما جعلني أضيق ذرعا بحالي الرث والذي تحكمه الأقدار، ولا أستطيع أن أرى أو أتنبأ بما سوف تجلبه الأيام!

إنني أمتلك من الجمال وطلاقة اللسان ما يجعلني كزهرة. لكن هيهات إنني زهرة ملقاة بجانب الطريق لا تنظر إليها عين أو تتنسمها أنف مما جعل نفسي في هدوئها تضطرب كموجٍ عاتٍ … لم أشعر بحقارة العمل الذي سوف أُقْدِمُ عليه … من منطلق قدرتي على استغلال واستمالة ذلك المغرور الزاهي بقدرته … فانزلقت قدماي للخطية. نعم كنت أرمق أحدهم بنظرة ساحرة تكون فيها نهايته… يرى أني مدلهمة بحبه فيقع فريسة طيعة بيدي وسرعان ما نعلن زواجنا … وتعدد الأمر فصار لديَّ من الأزواج خمسة.

لكن واأسفاه، فقد كانت آمالي في أن أنال شيئًا من حريتي، تتحطم على هذه الصخرة التي هي ذاتي … إنني ذاتٌ عطشى… لن ترتوي أبدًا … ذاتٌ باتت سيرتها حديث كل فمٍ من أهل قريتي … ذاتٌ يحلو حولها سمر الليالي … صرت شوهاء … الخوف بدا يُداخلني، سكن فيَّ … بحثتُ عن أنيسٍ أو رفيقٍ يقطع علىَّ عزلتي، لكنني فشلت. وجدت أنَّ كل مُطلق وضعته أمامي في جسدٍ فامتلكته ما هو إلا سرابٌ خادع … وهم … أو قل بخارٌ سرعان ما يتلاشى ويختفى، فكانت نهايتي وحيدةٌ مُسهدةٌ … منبوذة من مجتمعٍ نشأت فيه، وترعرعت داخله.

آه لقد اظلمت الدنيا من حولي … استحالت إلى ظلمةٍ قاتلةٍ، أشدُ فتكاً مما كانت عليه من قبل … صرتُ مقيدةٌ بقيدٍ حديدي يحيط بي من كلُ جانبٍ، اغرورقت عينايّ بالدموع وامتلأت نفسي بالخجل … خرجت مترجلة أجر ذيول خيبتي عبر الطريق المؤدية إلى بئر يعقوب لعلي استمد منه ماءً أروى ظمأي وعطش نفسي … سرت تائهة حائرة … حائرة تحت وطأة هذا الزحام والخلجات.

هناك، وعلى غير العادة، وجدت رجلاً يهوديًا جالسًا، ملامحه تنطوي على رقةٍ ذات أثرٍ بالغٍ في القلوب … رقة ترتسم بطابعها على وجهه المشرق، وعينيه يفيض منهما الصفاء والمحبة، ولكن واأسفاه إنَّ هذا الجمال يبدو مغلفًا بغلالة رقيقة من الاجهاد الشديد، وعندما اقتربت منه أدهشني وآثار حفيظتي فقد طلب مني ماءً … أأنا العطشي، “يسألني ماء؟!” … كان سؤاله رقيقا أعاد لي كرامتي … كبريائي المطعونان في صميمهما، الضائعان وسط شرذمة الأصدقاء القبيحة الأخلاق، لكني وجدت الفرصة سانحة لممارسة حريتي المسلوبة وممارسة حنقي وتهوري، فكان جوابي بالنفي! كيف ليهودي أن يكلم سامرية! … يخاطبها … يحادثها … يطلب ارتواء؟!

عاد يخبرني أنَّ لديه ماء لكنَّه من نوعٍ خاص، مَن يشربه لا يعطش أبدًا …  آه … ما أحوجني لمثل هذا الماء؟ لعلي لا أعود أرى الناس مرة أخرى، كفاني ما لقيته وتجرعته من هزءٍ وسخرية وافرين، وعلى غير توقع مني وجدته يستدرجني في حوارٍ … يفضحني … يكشف أعمالي الدنيئة … أهدافي الرخيصة … آمالي الكاذبة. وجدت نفسي فجأة أمام مرأة تُظهر ما أخبئه عن ذاتي، أو ما قد حاولت تناسيه، أو ما أحاول أنْ أواريه التراب أجده مرة أخرى يواجهني … تمالكت نفسي … حاججته … حاورته لكنني خسرت الموقف مشدوهة من هول المفاجأة، أيقنت أنني أمام طراز غريب لم أعرفه من قبل، رجلٌ عَرِف كل ما أصنع سواء في الخفاء أو العلن، أهذا نبي؟ أيكون المسيا الذي طالما انتظرته؟ وتحققت ظنوني، خاطبني … أعلمني أنَّه قادر على الصفح والغفران … قادر على نسيان ما لم أستطع أن أنساه لنفسي.

هنا تراءت في مخيلتي صورة القيد الحديدي … كيف لي الخلاص منه؟ كيف لي التحرر؟ … تصاعد في داخلي نزاع بين الرغبة والواقع … بين ما أريده وما يُعوقُني من الحصول عليه … صراع بين ماضيَّ … وحاضري … ومستقبلي. لقد مضيت طويلًا في دروب الحياة الصعبة وحدي … حاولت اصلاح ما أتلفته يداي، لكني وجدت نفسي أعود لأتلفه مرة ومرات … أنشدت الراحة سعياً حثيثاً في الظفر بها… طلبت اللذة وتذوقت مرارتها … لم أرض أبدا بواقعي ولم أستقر على حال بل كنت في سباقٍ مع الزمن أسعى إلى الحرية، وها هي عجلة الزمان تمضي وأراني الخاسرة فلا شيء جنيته يعودُ عليَّ بالنفع.

تصاعدت أنفاسي لاهثة، لكنَّه أسعفني بنظراته الثابتة … وهدوئه الواثق … ناداني برقتِه وعذوبةِ صوته، منحني القدرة على التحرر من قيودي، فقد حطمها … أزال حواجزي … نزع عنى أخطائي … صيرني عضواً في ملكوته … فمنحته نفسي، رددت له حلو القصيد فقد وجدت فيه مآربي.

“إني لك إلهي ما حييت … إني لك يا مَن أعدت لي حريتي المسلوبة، المفقودة، أقدَّم لك حياتي يا مَن أوجدتها، فحريتي زائفة دونك … وهل أستطيع أن أمتلك وأحقق ذاتي دون اتباعك الآن… إنما حياتي هي ملك لك”.

تم نشر هذه المقال في مجلة “أجنحة النسور” العدد 325 أكتوبر 1987

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى