أغصان الكرمة العدد (1) يوليو 2020
عند بداية كل عام جديد يتطلع الناس لعام مفروش بالورود والرياحين، ففي بداية هذا العام (2020)، لاحظت الكثير من المنشورات على صفحات التواصل الاجتماعي، تصف 2020 أنه عام التعويضات، عام البركات… الخ، ومع حلول أزمة كورونا، ومن قبلها العواصف الشديدة، تحولت كل الألسنة لتنعت هذا العام بالعام الكئيب والعام الصعب… الخ. ومن الغريب أنه عند نهاية كل عام يقولون: “مضت السنة بحلوها ومرها”! لذا فَهُم يُقرون بالحقيقة في النهاية، وليس في بداية المشوار، وهذا يمكن وصفه بـ”الإقرار الاضطراريّ”، فنرسم أحلامًا ورديّة، نَفيق منها ربما في الأيام الأولى من العام! ولكن الحياة في حقيقتها هي ما بين “مَارَّةٍ” و”إيليم”! فما معنى ذلك؟ اقرأ معي ما جاء في (خر15: 23- 27): “فَجَاءُوا إِلَى مَارَّةَ. وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْرَبُوا مَاءً مِنْ مَارَّةَ لأَنَّهُ مُرٌّ… ثُمَّ جَاءُوا إِلَى إِيلِيمَ وَهُنَاكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَ مَاءٍ وَسَبْعُونَ نَخْلَةً. فَنَزَلُوا هُنَاكَ عِنْدَ الْمَاءِ”.
بعد أن قضى الشعب سنينًا في العبوديّة بأرض مصر، صنع الرب لهم العبور العظيم، ووجدوا أنفسهم في “مَارَّةٍ” محرومين من أبسط وأهم احتياج، وهو الماء! وهنا تذمروا على موسى وهارون، وبعد أن حَلَّى الرب المياه ساروا ليجدوا أنفسهم في “إيليم” ووجدوا فيها شبعًا وارتواءً! وهذه صورة للحياة في عمومها.
* أولاً: مُفارقات عجيبة:
بعد فرح العبور كان مرار “مَارَّة” ثم شبع وارتواء “إيليم”، ولو تتبعت –عزيزي القارئ-لوجدت بعد ذلك مباشرةً- بريَّة سين (حيث تذمر الشعب من جديد)، هكذا هي الحياة رحلة بين مَارَّة وإيليم!! فاللوحة الفنيّة لا تخلو من الألوان القاتمة والفاتحة، المتداخلة لتشكل لوحة جميلة، والبيانو به مفاتيح سوداء وبيضاء لتعطي أعذب موسيقى، والوردة لا تخلو من الشوك! بل ربما تسير في شارع واحد لتجد فيه سرادق عزاء (مَارَّة) ثم سرادق فرح (إيليم).
من هذا المنطلق، فالحياة مزيج بين الحُزن والفرح، المرض والصحة، الخسارة والمكسب، الفشل والنجاح، البكاء والضحك، إنها رحلة بين مَارَّة وإيليم! أتى وقت ضحك فيه إبراهيم (تك17: 17)، وأتى وقت آخر بكى فيه (تك23: 2)، وأتى وقتٌ حلَّق فيه إيليا فوق جبل الكرمل (1مل18)، وفي وقتٍ آخر جلس تحت الرتمة (1مل19)، وحتى البيوت التي دخلها يسوع، هناك بيوت كانت بمثابة “مَارَّة” له، لم يسترحْ فيها، كبيت سمعان الفريسي، الذي عَلِمَ يسوع بحديثه داخل نفسه، عندما دخلت المرأة بيته، على العكس تمامًا هناك بيوت أخرى كانت ليسوع بمثابة “إيليم” له، كبيت مريم ومرثا كان يستريح فيه! وحتى في العمل الكرازيّ، يكتب بولس لأهل غلاطيَّة قائلاً: “إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ” (غل1: 6)، بينما يكتب لأهل رومية: “أَشْكُرُ إِلَهِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ” (رو1: 8).
* ثانياً: تذمر شديد وحل قريب:
عندما تذمر الشعب على موسى، بسبب الماء المُر قائلين: «مَاذَا نَشْرَبُ؟»، صرخ موسى إلى الرب، “فَأَرَاهُ الرَّبُّ شَجَرَةً فَطَرَحَهَا فِي الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَذْباً” (خر15: 25)، ومِنَ المُلاحظ أنَّ الشجرة كانت:
- موجودة بالفعل: فلم يخلقها الله من العدم، أو يُنبتها من الأرض، كالبئر التي آراها الله لهاجر (تك21: 19): “وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ”، فلم يفجر لها عين ماء جديدة! هكذا أيضًا ربما يكون الحل لمشكلة ما (بل ربما حلول كثيرة)، أمام أعيننا، لكننا نبحث في غيبيات تستهلك الوقت، وتدور بنا في حلقة مُفرغة، ونغوص إلى نغرق في تشخيص المشكلة.
- قريبة منه: لم يكن الحل (الشجرة) للمشكلة (المياه المُرة) موجودًا فحسب، بل كان أيضًا قريبًا! بدليل القول: “أَرَاهُ الرَّبُّ شَجَرَةً”، وهكذا أيضًا الحلول ربما تكون قريبة منَّا، لكننا لا نراها، وكما قال أحدهم: “إن آرائنا وأفكارنا تعذبنا أكثر مما يعذبنا الواقع نفسه”!، كالمريمات اللائي كن مشغولات، قائلات: «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟» (مر16: 3)، ولكن عندما تَطَلَّعْنَ رَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! (مر16: 4).
- أصغر من حجم بِركة الماء: بدليل أن موسى “طَرَحَهَا فِي الْمَاءِ”، كذلك ربما لا نرى الحل –أو الحلول- لأنها صغيرة، وبسيطة، مقارنًة بحجم المشكلة، كالمفتاح الصغير الذي يفتح بابًا كبيرًا، وكالكلمة الطيبة لعائلتين متخاصمتين!
مجموعة من رواد الفضاء خططوا رحلة فضائية لسطح القمر، وهذه الرحلة تتطلب كتابة ما سيستكشفونه، حتى لا يُنسى، ونظرًا لأن جاذبية القمر سُدس جاذبية الأرض، فالحبر لن يكتب على الورق، كما لو أمسكت بقلم لتكتب على لوحة مُعلَّقة على الحائط، فسوف تلاحظ أن القلم بعد كلمات قليلة بهت حبره إلى أن ينقطع. لماذا؟ لأن القلم عندما يميل فالجاذبية الأرضية تجذب الحبر من الناحية الأخرى، والقمر هنا جاذبيته ضعيفة، ففكروا كيف نكتب التقارير؟ وكان على مقربة منهم يجلس طفل صغير، فقال لهم بشغف: “لديَّ الحل” لكنهم أسكتوه قائلين: “لا يوجد وقت لمجادلتك، اتركنا في مشكلتنا”، ففكروا قائلين: “الحل هو أن ننقش لا أن نكتب؟ لكن في ذلك عناء شديد”! وبعد حيرة شديدة، قالوا للطفل: “قُل لنا ما الحل؟”، فقال لهم: “اكتبوا بقلم رصاص”!، فنكَّسوا رؤوسهم خجلاً، قائلين: “كيف لم نصل إلى هذا الحل الموجود بأيدينا؟!”.
أحبائي، ربما تكون الحلول قريبة منا لكننا لا نراها، وموجودة بالفعل لكننا نغرق في المشكلة، وصغيرة لكننا لا نُعيرها أدنى اهتمام! إن الحياة رحلة بين مَارَّة وإيليم، والرب معنا في كليهما، فلنثق به أولاً، ونبحث عن الحلول وسط مارة!