أغصان الكرمة

التجسد والترجمة قصة الله في المسيح والمسيحية

أغصان الكرمة                                               العدد (4)                                                 يناير 2021

لماذا بقيت المسيحية؟ تقرير كائن فضائي

كائن من كوكب آخر في مَجرَتنا دفعه شغفه بدراسة الأديان وتطورها عبر الزمن إلى زيارة كوكبنا. من بين أديان الأرض اختار هذا الكائن المسيحية نموذجًا، ربما بسبب تاريخها الطويل الذي يرجع إلى ما قبل ألفي عام أو ربما بسبب انتشارها النسبي بالمقارنة مع غيرها. شغف هذا الكائن الغريب بالبحث في الأديان المقارنة جعله يتغاضى عن مشقة السفر عدة مرات في رحلاتٍ مكوكية إلى الأرض، مع ما يحمله ذلك من مخاطر التعامل مع بني البشر، بعد أن تعرف على طرفٍ من تاريخهم، ورغم تحذيرات أساتذته في كوكبه من شراسة الإنسان في تعامله مع المختلفين عنه. من حسن حظ هذا الكائن أن الله حباه مع بَني جنسه في هذا الكوكب بأعمارٍ طويلة تمتد إلى آلاف السنين، وهو ما مَكَّنه من متابعة عَيِّنة بحثه (المسيحية) وزيارة الأرض في لحظات تاريخية مختلفة تبدأ من ثلاثينيات القرن الميلادي الأول في أورشليم وحتى نهايات القرن العشرين في أماكن انتشار جديدة للمسيحية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. السؤال المبدئي الذي حَرَّك هذا المشروع البحثي بسيط (أو هكذا يبدو): هل لعنصري الزمن والثقافة دورٌ  في نشأة المسيحية وتطورها وبقاءها رغم التحديات المتنوعة؟ يبدو السؤال بسيطًا في ظاهره، لكن بصيرة الكائن الفضائي مكنته من رؤية مجموعة الأسئلة المتشابكة التي يخفيها السؤال: كيف نشأت المسيحية وتطورت؟  كيف عبرت حواجز الزمن، وواكبت كل عصر دون أن تهادنه؟ كيف عبرت

المسيحية حواجز الثقافات، واستطاعت أن تجد لنفسها سكنًا في كل ثقافة بنفس القدر الذي صارت هي فيه مسكَنًا لكل ثقافة دخلتها؟ كيف نجح النص الأساسي للمسيحية – الكتاب المقدس – في أن يصالح معاني وصور ومجازات نابعة من ثقافات الشرق الأدنى والعصر المسيحي الأول، على أبجديات ومفردات وتراكيب لغات البشر المتعددة؟ والسؤال الأهم: لماذا بقيت المسيحية حتى الآن رغم تحديات التاريخ والجغرافيا، الزمان والمكان، الثقافة والسياسة، العِلم والخُرافة؟ سافر الفضائي عبر التاريخ والجغرافيا يلاحظ موضوع بحثه، ويراجع ملاحظاته على خلفية أسئلته، محاولًا تحديد الثابت والمتحول في المسيحية، ما ظل باقيًا جامعًا لكل الجماعات المسيحية ومشتركًا فيما بينها، وما اختلفت كلٌ منها فيه عن غيرها.

القصة – بالطبع – ليست حقيقية، عزيزي القارئ، ولا هي جزء من حبكة روائية أو سينمائية (على الأقل حتى الآن) ولكنها افتراض تخيلي طرحه البروفيسور ’’أندرو وولز‘‘، أستاذ تاريخ الإرساليات ومؤسس مركز دراسة المسيحية في العالم بجامعة إدنبرة  وجامعات أخرى كثيرة، في كتاب تأسيسي له بعنوان ’’الحركة الإرسالية في التاريخ المسيحي: دراسات في انتقال الإيمان عبر الزمن‘‘ والصادر عام 1996. يستخدم وولز هذا السيناريو الافتراضي ليحاول من خلاله أن يفحص تاريخ المسيحية ويضع يده على سر بقائها واستمرارها. ولعل اللفظتان الأكثر استخدامًا في الكتاب في محاولة الوصول إلى إجابات هما ’’التجسد‘‘ و’’الترجمة‘‘؛ كذلك فإن الشاهد الكتابي الأكثر استخدامًا في كتاب وولز هو يو1: 14 ’’والكلمة صار جسدًا([1]) وحَلَّ بيننا‘‘. والثابت أن وولز ليس أول من استخدم مفهومي التجسد والترجمة للإجابة عن الأسئلة السابقة، وليس هو الوحيد([2]). أحاول في عُجالةً – تفرضها مساحة هذا المقال – إلقاء الضوء على مفهومي ’’التجسد‘‘ و’’الترجمة‘‘، مُبَيِّنًا أهميتهما في فهم الإعلان المسيحي وتاريخ المسيحية. الجدير بالذكر هنا أن علماء الإرساليات عندما يستخدمون مصطلح ’’الترجمة‘‘، فهم لا يشيرون فقط إلى ترجمة الكتاب المقدس – وهو عامل بالغ الأهمية في تتميم الإرسالية العظمى – وإنما إلى قدرة المسيحية على أن تترجم نفسها وخبر الإنجيل إلى الثقافات واللغات المختلفة على نحوٍ يجعلها تتجسد فيها جميعًا، ليكون خبر الإنجيل مُتاحًا للكل، تمامًا كما كان في تجسده، مُتاحًا للكل.

الله يتكلم: اللغة والثقافة بين السقوط والفداء: الله يتكلم، وعندما يتكلم يتجسد كلامُه فعلًا: هذا إعلانٌ لا تخطئه بصيرة القارئ الفطن للصفحات الأولى من الكتاب المقدس. التواصل في صميم طبيعة الله، حتى من قبل خلق الإنسان، فلم يكن الله محتاجًا للإنسان ليمارس صفةً هي في جوهر طبيعته([3]). فعل الخلق عند الله هو فعل لغة (قال فكان) قادر على تغيير الواقع. وعندما خلق الله الإنسان على صورته منحه القدرة على استخدام اللغة لإحداث تغيير في الواقع. أول إشارة لاستخدام الإنسان للغة نجدها في تك 2: 19-20 عندما منح الله آدم سلطة التسمية؛ والتسمية فعل خلق مُصَغَّر، فعل مَنح هُوية ومعنى لكيانٍ يفتقر لكليهما؛ وكان الله مصادِقًا على إبداع آدم وخلقه لواقع جديد من خلال اللغة ’’وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها‘‘(تك 2: 19).  في الجنة، استخدم آدم وحواء اللغة للتعبير عن نفسيهما، والتواصل مع الله ومع أحدهما الآخر؛ كما استخدما اللغة لإدارة الطبيعة التي أوكلهما الله عليها؛ واستخدام اللغة على هذا النحو (للتعبير عن النفس والتواصل مع الآخر وتغيير الواقع) هو ثقافة، بالمعنى الواسع للكلمة. في الجنة، وفي حالة البراءة، اللغة في أقصى درجات فاعليتها والثقافة في أبهى صور تحققها، والاثنان كاشفان عن حضور الله ومجده في الإنسان والخليقة.

يحدث السقوط، فتدخل الخطية، ليخرج الإنسان من محضر الله؛ وبخروجه يزحف التشوه على عقل الإنسان وضميره ووجدانه؛ كذلك تتشوه اللغة، باعتبارها المُعَبِرة عن عقل الإنسان، وتتشوه الثقافة باعتبارها المجال الذي يتجلى فيه ضمير الإنسان ووجدانه. بالسقوط، صارت اللغة وسيلةً لتغييب المعنى، بدلًا من استحضاره، لاستبعاد الله بدلًا من الاقتراب منه، لتشييد حواجز الكراهية والعداء بين البشر، بدلًا من بناء جسور المحبة؛ صارت اللغة بالسقوط وسيطًا للعنة، بعد أن كانت ناقلة للبركة، مُشَوِّهة للواقع، أو على الأقل مصادِقة على تشوهه، لا مُغيرة له. كذلك الحال مع الثقافة التي صار أقصى طموحها – بعد السقوط – التعبير عن تشوه الإنسان وتيهه وتغربه عن معنى وجوده، وعجزه عن إدارة الكون وإدارة نفسه، دون أن تقدم له علاجًا([4]).

لكن الله، في محبته، لا يسمح للخراب أن يختطف المشهد بالكامل؛ وهو يترك دائمًا بابًا مفتوحًا للرجاء. يستقل الإنسان عنه، فيترك فيه الله الضمير، مُنَبِهًا وصارخًا؛ تتشوه اللغة والثقافة، لكنه يسمح لروحه أن يَرِفُ عليهما، ليفتح فيهما طاقات تُسَرِّب بعضًا من نوره إلى الإنسان. ولا أجدُ هنا أبلغ مما قاله البروفيسور رُوَان ويليامز، رئيس أساقفة كانتربري السابق، في كلمته التي ألقاها عام 2004 في الاحتفال بمرور 200 عام على تأسيس دار الكتاب المقدس البريطانية([5]):

“كُل لغة وكُل ثقافة تنطوي جميعًا على غريزةٍ كامنة تبحثُ عن سُكنَى الله فيها – هذا التوقُ الغريزي لتسكين الله في اللغة والثقافة تطمسه وتُغَيِّبُهُ تراكمات من الخطية والفساد؛ لكن هذا التوق يبقى هناك، دفينًا كالجمال النائم ينتظر أن توقظه كلمة المسيح من سُبَاتِه. وهنا يمكن أن نفسر النموذج المتكرر في تلك اللغات والثقافات التي ما تلبث أن تحتضن القصة الكتابية في مفرداتها وتراكيبها حتى تنسرب طاقة التجدد والتفرد فيها([6]).”

التجسد والترجمة السبعينية: افتداء الله للغة والثقافة: التجسد نقطة البدء التي يمكن من خلالها فهم ما حدث للمسيحية من بدايتها حتى الآن. التجسد هو النقطة المرجعية التي صاغت تاريخ المسيحية، ومنحتها القدرة على عبور حواجز التاريخ والجغرافيا. ولا أتصور أن يتمكن صاحبنا الفضائي من الإجابة عن تساؤلاته دون تأمل اللحظة التي فصل فيها الله الزمن إلى ما قبل وما بعد؛ ودونَ تَبَصُّر ما كان يصنعه الله في اللغة والثقافة لتجهيزهما لتلقي إعلان التجسد والتعبير عنه في اللغة، بل ونقل هذا الإعلان الإلهي عبر جماعات ثقافية مختلفة.

عمل الله في اللغة والثقافة ظهر في ثلاثة أمور محورية لعبت دورًا كبيرًا في التجهيز لقبول إعلان التجسد واستيعاب تلك العبارة المفتاحية ’’والكلمة (اللوجوس) صار جسدًا‘‘ داخل الثقافة اليهودية-الهلينيستية؛ وهذه الأمور هي:

 1) تطور الفلسفة اليونانية بدايةً من القرن السادس قبل الميلاد.

2) إكمال الترجمة السبعينية للتوراة في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.

3) تطور علوم تفسير التوراة في ترجمتها السبعينية على أيدى يهود الشتات.

أضافَ الفلاسفة اليونانيون دلالات جديدة للفظة ’’لوجوس‘‘ اليونانية التي تطورت معانيها على أيدي هيراقليطس وأفلاطون وأرسطو، وكان من ضمن هذه الدلالات: ’’مبدأ كوني خفي ينظم هذا الكون‘‘، وهذا المبدأ – وفقًا لهؤلاء الفلاسفة – غاب عن بصيرة الكثيرين ولم يدركه سوى القليلين من الحكماء. نفس هذه اللفظة وجد فيها مترجموا النسخة السبعينية مكافئًا للألفاظ العبرية في العهد القديم الدالة على “كلمة الله‘‘ و’’حكمة الله‘‘، ومن ثم أصبحت هذه اللفظة اليونانية مقبولة لدى عموم اليهود الذين قرأوا السبعينية (ومنهم كُتَّاب العهد الجديد). أضف إلى العاملين السابقين تطور علوم التفسير اليهودية على أيدى مفسرين وفلاسفة من أمثال فيلون السكندري الذي وُلِدَ قبل عقدين من ميلاد المسيح وعاش حتى عام 50 بعد الميلاد. كان فيلون نموذجًا للمثقف اليهودي الذي تفاعل مع الحضارة الهلينستية واشتبكَ مع الفلسفة اليونانية في عصره، مُوظِفًا إياها في تفسير نصوص التوراة في الترجمة السبعينية. ومن بين إسهاماته البالغة الأهمية ما أضفاه على مفهوم ’’اللوجوس‘‘ من دلالات ومعاني جهزت اللفظة اليونانية لأن تكون وعاءً يستوعب الإعلان الأهم في المسيحية من خلال البشير يوحنا في نهاية القرن المسيحي الأول. رأى فيلون السكندري في اللوجوس أسمى كائن في الوجود، وهو صورة الله والأقرب إلى التعبير عنه في عالمنا المادي، وهو النموذج الأعظم الذي يحتذيه الكون، والفكرة الأسمى التي تحتوي كل فكرة. أيضًا فإن اللوجوس – حسب فيلون السكندري – هو القوة الخالقة للكون والحاكمة له؛ وربط فيلون لفظة اللوجوس باسم الله في العبرية (إلوهيم) والرب في اليونانية (كيريوس)، ووصف اللوجوس بتعبيرات تجعل المفهوم صالحًا وجاهزًا لأن يعبر عن أقنوم الابن، الكلمة المتجسد، كما نجده بكل وضوح في الإصحاح الأول من بشارة يوحنا.

ما كان للغة اليونانية أن تتجهز لاستقبال هذا الإعلان دون الترجمة السبعينية وفي غياب هذا التلاقح الثقافي الذي حدث بين الثقافة اليهودية والحضارة الهلينستية، وبين اللغة العبرية واللغة اليونانية.  وما كان للعقل اليهودي وحده، بعيدًا عن الفلسفة اليونانية، أو العقل اليوناني وحده، بعيدًا عن إعلان الله في التوراة، أن يتمكن من استيعاب إعلان الله عن نفسه في المسيح من خلال مفهوم اللوجوس؛ وليس ذلك سوى مثال واحد على عمل الله في اللغة والثقافة([7])، رغم التشوه الذي أصابهما بالسقوط، بل ومثال واضح على اهتمام الله بهما ودعوته للكنيسة (جماعة المؤمنين) أن تشاركه عمله فيهما.

التجسد وترجمات الكتاب المقدس: الإعلان الإلهي عابرًا لحدود الثقافة واللغة: ربما يندهش صاحبنا الفضائي عندما يعلم أن دور الترجمة لم يكن قاصرًا على تجهيز المشهد لاستقبال أهم إعلان إلهي عرفته البشرية في القرن المسيحي الأول، لكنها لعبت أيضًا دورًا محوريًا في انتشار هذا الإعلان في ثقافات الأمم ولغاتها المتباينة. ولعل صاحبنا يلفته أن ديانات العالم المعروفة لديها خوف من الترجمة، وتخشى نقل ’’ نصوصها المقدسة‘‘ خارج لغاتها الأصلية، ربما لظنٍ منها أن ثمة لغة واحدة هي الأقدس والأجدر باستيعاب كلام الله؛ وأن كلام الله لا يذهب إلى الناس في لغاتهم وبيئاتهم، وإنما هم من يذهبون إليه، حتى لو اضطروا إلى تعلم اللغة التي كُتِبَت بها هذه النصوص. ليس كذلك الحال في المسيحية؛ فخبر الإنجيل جاء به المسيح بالآرامية، وسجله تلاميذه ورسله بلغة الانتشار في القرن المسيحي الأول وهي اليونانية الشعبية (وليست يونانية النخبة)، ومنها إلى كافة لغات العالم.

ما سبب عدم خوف المسيحية من الترجمة؟ ولماذا لم تنحصر المسيحية جغرافيًا في البلد الذي تجسدَ فيه المسيح، ولم تُسجَن في اللغة التي وُلِدَ فيها وقَدَم بها الخبر السار؟ واحدة من الإجابات المحتملة على هذه الأسئلة نجدها في كلمة البروفيسور رُوَان ويليامز المُشار إليها سابقًا، يقول فيها: ’’المسيحية، إذا ما قُورِنَت بأديان العالم المعروفة، هي الأكثر استثمارًا في الترجمة بشكلٍ واضح. ليس لدينا لغة مقدسة؛ فقد كانت قناعة المسيحيين منذ البداية أن كل لغة بشرية يمكن أن تحمل الإعلان الكتابي. إن الكلمات الأولى التي صاغت الإعلان المسيحي ليست صناديقًا مغلقة، تحوي سر هذا الإعلان وتحجبه عَنَّا؛ لكن هذه الكلمات واقع حَي، قادرٌ على إيقاظ الإدراك مِن سُبَاتِه، في عبورها أعلى الحواجز بين الثقافات، وفي توليدها لكلماتٍ جديدة في الثقافات المتباينة التي تصل إليها. وهذه الكلمات الجديدة بدورها تملك في ذاتها الحياة ومن ثَمَّ تصبح قادرة على إثارة دهشة طازجة وإدراكٍ جديد‘‘([8]).

يخبرنا ويليامز أن خبر الإنجيل لا يحتاجُ ’’لغةً مقدسة‘‘ يُقَدَّم من خلالها للبشر، لكنه عندما يدخل أي لغة فإنه يحمل إليها ’’قداسة الخبر السار‘‘ الذي يفجر فيها ينابيع الحياة والإبداع؛ القداسة لا ترتبط هنا بالمفردات، لكن القداسة كامنة في محتوى الخبر السار عن قصة يسوع وحياته وتعاليمه وموته وقيامته، تلك القصة التي تملك من الفاعلية ما يجعل بطلها قادرًا على أن ’’يتكلم ويغفر ويبارك في كل لغة إنسانية موجودة أو ستوجد في المستقبل‘‘([9])، تمامًا كما كان قادرًا على فعل ذلك في الآرامية.

لكن السبب الأهم الذي يجعل المسيحية لا تخشى ترجمة الكتاب المقدس إلى لغات عدة، بل وإلى ترجمات متعددة داخل اللغة الواحدة، هو أن ترجمة الكتاب المقدس هي – في جوهرها – فِعل تَجَسُّد في الثقافات والجماعات البشرية المختلفة، تمامًا كما أن التجَسُّد – في جوهره – فعل ترجمة، بشكل من الأشكال. وهذا ما يقوله وولز: ’’التجسد ترجمة. عندما صار الله في المسيح إنسانًا، فقد تُرجِمَ ما هو إلهي إلى ما هو بشري، على نحوٍ صار فيه البشري هو اللغة التي تم الترجمة إليها‘‘؛ ومن ثَمَّ فإن ’’ترجمة الكتاب المقدس تعكس حدث المحوري الذي تستند إليه المسيحية‘‘([10]). ما كان بالإمكان أن يكون لدينا تاريخٌ طويلٌ من ترجمات للكتاب المقدس، دون حدث الترجمة الأول والأعظم الذي عرفناه في التجسد. في الكلمة المتجسد تُرجِمَ قلب الله وعقله بلغةٍ نستطيع أن نفهمها، على نحوٍ مشابه لما نجده في الكلمة المُوحَى بها، وربما للفعل اليوناني ἐξηγέομαι الذي ترجم في نسخة فانديك إلى ’’هو خَبَّر‘‘ (يو1: 18) دلالته هنا، فهو نفس الفعل الذي نشتق منه كلمة exegesis والتي تعني ’’شرح‘‘ أو ’’تفسير‘‘ أو ’’تبيان معنى‘‘.  نفس هذا الطرح نجده في كتابات عالم آخر كبير في تاريخ الإرساليات، خصوصًا في أفريقيا، وهو ’’لامين سَنَّه‘‘ الذي يؤكد أن شرعية ترجمات الكتاب المقدس إنما تُكتسَب من التجسد بوصفه ترجمةً. كما يؤكد من خلال دراسات حالة لترجمات الكتاب المقدس في غرب أفريقيا([11]) أننا لا نستطيع أن نفهم ترجمة الكتاب المقدس إلى القبائل الأفريقية بدياناتها وثقافاتها المتباينة والبعيدة كل البعد عن ثقافة الشرق الأدنى التي خرج منها الكتاب، دون فهم فعل الترجمة الأول الذي أخلى فيه العالي نفسه، تاركًا مجده، صائرًا في شبه الناس، مفهومًا، ومتاحًا للأعين والبصائر.

التجسد والترجمة والإرسالية: الكنيسة خَزَّان مياه أم نهرٌ؟: مُعطيات التاريخ حتمًا ستجعل باحثنا الفضائي ينتهي إلى حقيقة مؤكدة: المسيحية باقية، رغم عوائق التاريخ والجغرافيا، أو ربما بسببهما. لكن بقاء المسيحية ليس لفضلٍ في المسيحيين، فلو تُرِك الأمر لهم، لمَا كُتِب لها البقاء. سرُ بقاءها في جوهر معبودها وطبيعته، وفي جوهر نصها المقدس وطبيعته. في ملء الزمان أخذ الله مبادرته بالخروج خارج الحجاب، وفي الوصول إلى إدراكنا، من خلال التجسد في مكانٍ وزمانٍ معينين؛ وفي أزمنةٍ متعددة مضت كنيسته تستلهم فعل الترجمة الإلهي الأول والأعظم؛ تجسده في شهادتها وإرساليتها، في ترجمتها للخبر السار في لغاتنا الملفوظة وفي لغة الإشارة([12])، وفي تقديمها له بلهجات محلية مختلفة ووسائط متعددة. تخسر الكنيسة كثيرًا لو حبست نفسها داخل أسوارها، تاركةً اللغة والثقافة نهبًا لإبليس، وتكسب سلطانها وشهادتها إن فهمت زمنها، واستوعبت أسئلته، وترجمت خبرها السار ونصها المقدس على نحوٍ يجيبُ عن أسئلة العصر. أمام الكنيسة خياران: إما أن تكون خزان مياه موصد يتعطن ما فيه بطول الانغلاق، أو أن تكون نهرًا ينطلق إلى آراضٍ جديدة، دافعًا مياهه إلى رحم الحقول البور، يستولد منها خيرًا يشبه ما أخذته من سيدها.

([1]) المكافئ الأدق للفظة اليونانية σάρξ في هذا السياق هي “بشرًا” أو “إنسانًا” كما وردت في ترجمات عربية أخرى كاليسوعية، والمبسطة، والترجمة العربية المشتركة.

([2]) فضلًا عن اسهامات ’’أندرو وولز‘‘، أحيل القارئ إلى أسماء لعلماء آخرين، لهم اسهاماتهم في علم الإرساليات مِثل ’’لامين سَنَّه‘‘  Lamin Sanneh و’’أولريش فيك‘‘ Ulrich Fick، وغيرهما.

([3]) لاحظ على سبيل المثال صيغة الجمع التي استخدمها الله قبل خلق الإنسان في تك 1: 26 ’’وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا‘‘، وما تستدعيه هذه الصيغة من تواصل داخل الذات الإلهية.

([4]) ربما أفضل تعبير عن ذلك نجده في تيار ما بعد الحداثة، الذي لم يرى في اللغة إلا شظايا معاني غير قادرة على إحداث التواصل والتعبير عن هوية إنسانية مكتملة ومتحققة.

([5]) نظرًا لما كانت تقدمه من خدمات للبلدان داخل حدود الإمبراطورية البريطانية، فقد عُرِفَت عند تأسيسها عام 1804 باسم دار الكتاب المقدس البريطانية والأجنبية British and Foreign Bible Society

([6]) نُشِرت الكلمة لاحقًا كمقدمة لهذا الكتاب:

Williams, R. 2004. Foreword. Sowing the Word: The Cultural Impact of the British and Foreign Bible Society (1804-2004). Sheffield: Sheffield Phoenix Press, x-xii.

([7]) اهتم بعض علماء اللاهوت في الغرب بتطوير لاهوت للغة والثقافة والترجمة، مهمته البحث في عمل الله واستخدامه لكلٍ منها لتوصيل نوره للبشر، من جهة، والبحث في مسئولية الكنيسة ودورها في استحضار الله إلى اللغة والثقافة والترجمة. أرشح للقارئ أسماء بعض اللاهوتيين من قبيل إدوين و. سميث (1876 – 1957)، لا سيما كتابه عن اللغة في علاقتها بالإرسالية والمعنون A Shrine of a People’s Soul   وريتشارد نيبور (1894 – 1962)، لا سيما كتابه المعنون Christ and Culture، وأيضًا بول تيليك (1886 – 1965) في كتابه المعنون  Theology of Culture. ما زلنا في عالمنا العربي نحتاج إلى جهد بحثي يطور لاهوتًا للغة والثقافة والترجمة يعبر عن واقع المسيحيين الناطقين بالعربية.

([8]) مرجع سابق.

([9]) مرجع سابق.

([10]) أنظر الصفحات 26-28 من كتاب وولز المشار إليه سابقًا، للاطلاع على نقاش مُفَصَّل عن المشابهات بين الترجمة والتجسد.

([11]) أنظر على وجه الخصوص كتابه الأشهر: ’’ترجمة الرسالة: تأثير الإرساليات في الثقافة‘‘.

Sanneh, L. 2005. Translating the Message: The Missionary Impact on Culture. New York: Orbis Books.

([12]) احتفلت دار الكتاب المقدس الأمريكية منذ أسابيع بإطلاق أول ترجمة كاملة للكتاب المقدس بلغة الإشارة للصُم والبكم بعد أكثر من 39  عامًا من بدء العمل عليها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى