أغصان الكرمة العدد (3) نوفمبر 2020
رأينا معًا في الجزء الأول من المقال أنَّ الشخص الوحيد المقصود به ، والمقصور عليه أمر التجسد فى صورة بشريّة هو شخص الرب يسوع المسيح، وهو وحده القادر على التواصل بين عالم الأحياء على الأرض، وعالم الأحياء فى السماء، ولا يوجد شخص آخر سواء فى العهد القديم أو الجديد يستطيع أن يتجسد فى هيئة مملوسة سواه، لكن هل من تفسير كتابيّ لظاهرة الظهورات؟ لنرى ماذا يفيدنا الكتاب المقدس -مرجعنا الوحيد ودستورنا الأكيد للإيمان والأعمال- في هذه النقطة:
أسئلة حول الظهورات: “انْظُرُوا! لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ”(مت 24: 4). هذا التنبيه المتكرر في العهد الجديد يوضح لنا أن الشيطان يسعى باجتهاد لا يعرف الملل أو الكلل، لكي يضل لو أمكن المختارين أيضًا بشتى الوسائل والطرق. “وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ!” (2كو 11: 14)؛ فمن مصلحة الشيطان أن يجذب الأنظار إلى شخص آخر غير المسيح كالعذراء مريم مثلًا، فهي شخصية محبوبة ومُكرّمة لدى كافة الناس. وفي انجذاب الناس لشخص العذراء مريم يكون الشيطان قد نجح في إبعاد أنظار الناس عن الوسيط الأوحد –المسيح-؛ فالكتاب المقدس يخبرنا بأنه “يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ يهوه وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يسوع الْمَسِيح” (1تي 2: 5) بينما نجد اليوم أن الابتعاد عن فكر الكتاب المقدس قد نجح بجعل العذراء مريم وسيط آخر إضافة إلى السيد المسيح بين الناس ويهوه؛ فأصبح يطلق عليها لقب Co-Mediatrix (شريكة في الشفاعة). وهذه تقاليد مخالفة لتعليم الكتاب. وعن طريق إعلاء شأن العذراء مريم وجعلها وسيط بين الله والناس استطاع الشيطان -بتقمص هيئة العذراء مريم- أن يبث لضحاياه تعاليم مخالفة لتعاليم الكتاب المقدّس، الأمر الذي من شأنه ترسيخ الضلالات السائدة في عقول الناس. فمثلاً كثيراً ما تظهر القديسة العذراء مريم وتدعو الناس لأمور من شأنها أن تُبعد الناس عن الحق الكتابي. يقول الكتاب أنه عندما يصرف الناس مسامعهم عن “الْحَقِّ … يَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ” (2 تي 4: 4) وهذا ما يسعى إليه الشيطان دائمًا وأبدًا، وتقمُّصه لشخصية العذراء مريم يسهّل عليه نشر الضلال.
ونظرًا للمكانة السامية التي تحظى بها السيدة العذراء مريم عند الأخوة المسلمين، فسيسعى عدو الخير من خلال الظهورات المريميّة إلى إقناع أخوتنا المسلمين بأن رسائل مريم العذراء هي رسائل آتية من السماء من عند يهوه وينبغي دعمها ومسايرتها. وليس من سبيل المصادفة أن يكون أول وأهم ظهور مريميّ في القرن العشرين في قرية سانت فاطيما بالبرتغال.
أسئلة هامة تحتاج إلى إجابة: السؤال الأول: من المعلوم قطعًا أن الصور التي يرسمها المسيحيون للمسيح وأمه هي صورٌ من وحي
خيال الرسَّامين، وأولئك لم يكونوا شهود عيان، ولا ناقلين عن شهود عيان، وقد رسموا العذراء مريم في ثوب أزرق، ثم زعم أصحاب واقعة التجلي أنها تجلت لهم في ثوبها الأزرق المعروف، فهل تحرص أن تأتي لهم في نفس الثياب التي اختارها لها الرسام الروماني؟ أم أن التجلـِّي واللوحة كلاهما خرجا من خيال واحد ؟!
السؤال الثاني: رسم الرسَّامون السيد المسيح و العذراء مريم بملامح أوروبية، رغم أن مريم-يهوديّة النسب من نسل داود- فترى: هل جاءت ملامحها كما تخيَّلها الرسامون الروم، أم جاءت ملامحها يهودية؟ أم أن الثواني المعدودة والارتفاع الشاهق قد حالا دون استيضاح الأمور ؟!
السؤال الثالث: سؤال آخر حول هذه الزيارة الخاطفة: ما هو غرضها؟ وإذا كان الغرض هو المساهمة في مولد أو تثبيت العقيدة؛ فلماذا لم تمشِ على الأرض مطمئنة يراها الناس وتكلمهم ويتكلمون معها؟!
السؤال الرابع: ثم ما قصة الحمام الذي صاحبها؟! نعلم أن بعض المسيحين يظنون أن الروح القدس -الأقنوم الثالث من الإله الواحد في زعمهم- نزل في هيئة حمامة ليشهد تعميد الأقنوم الثاني -الابن- في نهر الأردن تاركًا الأقنوم الأول -الآب- في السماء! ومع ذلك فهو يمثل وفق العقيدة النصرانية مع الآب والابن إلهًا واحدًا! وفي أثناء حفل تنصيب البابا الراحل جاءت حمامة واحدة ووقفت أمامه -في التصوير البطيء للفيديو طارت من خلف ستارة في الحجرة!- لكن ماذا عن الحمامات الثلاث المصاحبات للعذراء في تجليها؟! ولماذا صِرْنَ ثلاث؟! وهل تحول الآب والابن إلى حمام أيضًا؟ أم أن الروح القدس صار هو الآخر ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة؟! ثم لماذا كانت الحمامات من النوع الزاجل تمامًا كتلك التي ظهرت في حفل تنصيب البابا؟!
السؤال الخامس: وفق نص الأناجيل يملك رجال الكنيسة سُلطان عظيم مثل شفاء المرض! فلماذا يمرض هؤلاء؟! ولماذا يستشفون بوسائل الطب الحديث؟! ولماذا لم تساهم العذراء في تلك الزيارة الخاطفة في هذا العلاج؟! ما جاء في تعليق البابا شنودة على الموضوع في مجلة آخر ساعة عدد 3453 بتاريخ 27 ديسمبر 2000 كما يلي:
“طبعا نحن نحترم كثيرًا رأي الآباء الكهنة الذي جاء من أسيوط. والذي يمثل أيضا رأي نيافة الأنبا ميخائيل. لأن مجلس الكهنة لا يستطيع أن يعبر عن الإبارشية بدون موافقة مطرانها… وأنا رأيي هو الآتي: بعدما رأيت تسجيل الفيديو.. فالذي ظهر في الفيديو هو الآتي: عبارة عن نور باهر جدًا أقوي من أي نور عادي، وخطفات يعني ليس نورًا يبقي مدة طويلة. طبعًا ظهور نور بهذا الشكل لا شك أنه شيء ربانيّ وظاهرة روحيّة، خصوصًا عندما يكون نورًا يلمع فيه الصليب تمامًا، فهذه ناحية مفرحة، وعندما يكون هذا النور في كنيسة أرثوذكسية وفي مواجهتها مباشرة كنيسة أخري طائفية ولا يوجد ظهور سوي علي الكنيسة الأرثوذكسية، فهذا أمر له دلالته، لكن هذا كله عبارة عن نور. يعني ما أستطيع أن أقوله أنه ظهور لأنوار بطريقة مبهرة، وبطريقة تدل علي أن مصدرها روحي. هذه مسألة تعبر عن ظهورات روحية، لكن العذراء لا. يظل رأيي هذا متعلقا بما حدث إلي تاريخ هذا الفيلم، والصور ليس فيها شكل جسم إنساني ظاهر إنما أنوار عجيبة ومبهرة وقوية ولا يعرف لها مصدر. هذا ما يمكن قوله.”
إن التركيز على أعمال الجسد يقود إلى الإقلال من قيمة النعمة وإعلاء قيمة ومركزية الإنسان فى أمر الخلاص وكأن عمل المسيح ناقص يحتاج إلى إكمال وتتميم، وهذا يقود إلى إبراز قدرة بعض البشر على بلوغ قمة لا يستطيع الكل الوصول إليها وهنا يأتى خطأ التمييز بين بشر وبشر وأن هناك درجات ومستويات وكرامات للبعض؛ فمن هى العذراء مريم بحسب الكتاب المقدس؟ وما هى فوائد ومضار تعليم الظهورات؟
السيدة العذراء حسب الكتاب المقدس: السيدة العذراء تحتل مكانة عالية عند المسيحيين باختلاف طوائفهم و عند المسلمين و لكن ما ذكر بشأنها في الكتاب المقدس لا يتعدى بضع كلمات تشير إلى علاقتها بالسيد المسيح، أو لقاءها معه. كما لم يأت ذكر عمل تقوم به أو بركة أو شفاعة إلا أنها تشفعت عند يسوع ليحول الماء إلى خمر في أحد الأعراس بالجليل (يو2: 1-5 ). وقد أنتهى ذكرها بالإناجيل فور الإعلان عن قيامة السيد المسيح بالرغم من أن الأناجيل الموجودة بين أيدينا تمت كتابتها في الفترة من 65 إلى 110 ميلادية، أي بعد صعود السيد المسيح بفترة من 30 إلى 80 عاما”. وبالرغم من ذلك لم يأت أي ذكر لحياة السيدة العذراء أو عملها، أو أن هناك أي نوع من معجزات الشفاء أو معجزات أخرى تقوم بها، وجاء سفر أعمال الرسل الذي يقوم بالسرد التاريخي للرسل و دعوتهم و خاصة بولس ولم يأت بأي ذكر عن السيدة العذراء.
فائدة ومضار تعليم الظهورات: ربما يرى البعض في الظهورات بعض الفوائد مثل: تثبيت بعض العقائد التقليديّة على حساب العقائد الكتابية الإنجيلية، وإعلاء قيمة البشر وإعلان قداستهم والتركيز على أعمالهم الخارقة، ناهيك عن مكاسب مادية من تحويل الأماكن إلى مزارات، غير أنَّ الظهورات مرتبطة بالقيامة من الأموات ودليل عليها، كما أنَّ ظهورات المسيح بشكل مادى كانت إثبات أنه هو المسيا ابن الله الحى. أما عن الأضرار فيمكن إجمالها في: ربط الإيمان بالأعمال الخارقة وليس الاقتناع العقلي، وتركيز الأنظار على بعض البشر، والتفرقة بين القديسين والمؤمنين العاديين، والاعتماد على المحسوسات والماديات، إلى جانب إثبات الشفاعة والوساطة لغير المسيح، هناك أيضًا إثبات الأفضليّة لكنيسة عن أخرى.
الخلاصة: “حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هوذا هناك فلا تصدقوا”(مر13: 21) كل ما تم رؤيته مجرد نور و أضاءة و هي ظاهرة يمكن تفسيرها علميًا وسيكلوجيًا؛ لذا يُحذرنا الكتاب المقدس فى معرض حديثة عن الأنبياء الكذبة واستغلال الشيطان لقدراته فى هذا الأمر لكى يخدع ولو أمكن المختارين، فلماذا لا يتكلم هؤلاء بصوت مسموع كما تكلم السيد المسيح لشاول فى طريق دمشق؟ أو ينزلون إلى الأرض ويتحركون بصورة ملموسة كما جال السيد المسيح فى الأرض وصنع خيرًا وشفى جميع المتسلط عليهم إبليس؟
“وللقادر أن يثبتكم، حسب إنجيلى والكرازة بيسوع المسيح” (رو16: 25). المسيح هو الله الظاهر فى الجسد، نور العالم، الوسيط والشفيع الوحيد بين الله والناس، “وعندنا الكلمة النبوية وهى أثبت التى تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلي أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح فى قلوبكم”( 2بط 1: 19 ).