لماذا ندفع ثمنًا أغلى طالما يمكن أن ندفع أقل؟
نشر فى : الخميس 1 ديسمبر 2011 – 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 1 ديسمبر 2011 – 9:30 ص
تكتب هذه الجملة على واجهة المحلات التجارية لكن بصيغة المخاطب كنوع من الدعاية فى موسم التخفيضات وهى تقوم بتحذير الإنسان من أن يدفع فى شىء ما ثمنا يمكن الحصول عليه بقيمة أقل والفارق هنا بين شخص وآخر، هو فى الحنكة والخبرة والقدرة على التقييم الصحيح، وما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضا على الجماعات والشعوب، فالشعوب تتطلع إلى الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية وهذه القيم هى قيم إنسانية عليا لا تقدر بثمن والإنسان على طول تاريخه دفع ويدفع الكثير من الجهد والعرق والدماء فى سبيل الحصول عليها، وقد استطاع الكثير من المجتمعات الإنسانية أن تصل إلى تطبيق هذه المبادئ فى حياتها، ولكن مازال البعض يناضل ويصارع لأجل الحصول عليها، وفى العقود الأخيرة أصبح الحصول على هذه القيم أسهل كثيرا من ذى قبل بسبب توافق الإنسانية جمعاء عليها، وأيضا بسبب تراكم الخبرات الإنسانية وإدراك البشر أنه لا حياة إنسانية أو مجتمعية لها قيمة دون سيادة هذه القيم فى مجتمعهم، فمثلا دفعت الدولة الأمريكية عشرات الآلاف من أبنائها فى حرب أهلية طاحنة لأجل وحدتها بينما توحدت ألمانيا فى يوم واحد دون سقوط شهيد واحد بسبب سقوط الاتحاد السوفييتى عام 1989، فسقط بالتالى حائط برلين، والفرق هنا الزمن والخبرة والذى نجحت فيه أوكرانيا فى ثورته البرتقالية بدون عنف.
وتشيكوسلوفاكيا فى استقلالها وانقسامها إلى دولتين التشيك والسلوفاك، فشلت فيه ليبيا واليمن وسوريا، وما نجحت فيه تونس بوضع خريطة انتقال هادئ للسلطة مازالت مصر رغم مرور عشرة شهور تصارع وتعانى لأجل تحقيقه، وهى تدفع كل يوم ضحايا وتخسر أموالا وعدم استقرار وتهديدا يوميًا للأفراد والجماعات، أى أن المجتمع فى حالة فوضى عارمة وضبابية شديدة من نحو تحديد ملامح المستقبل والسؤال هو لماذا؟ لماذا دفعت تونس أقل ولماذا تدفع مصر أكثر رغم أن الهدف واحد؟، وأرى أننا كشعب ندفع أكثر مما يدفع الآخرون للأسباب التالية:
أولا: لأننا شعب لم يتعلم من تجاربه ولا من تجارب الآخرين:
لقد كانت أول تجربة لبناء دولة حديثة فى منطقتنا هى تجربة مصر الحديثة على يد محمد على والتى استمر البناء عليها منذ بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين حيث قامت ثورة الجيش عام 1952، وهنا انقطع التراكم التاريخى وسرنا فى اتجاه مختلف تماما حيث اعتبرت الثورة أن مصر ولدت معها وكل ما هو من قبل كان فسادا أو خيانة للوطن حتى اللغة الإنجليزية أصبحت من رمز العهد البائد وتم إلغاء تدريسها وسقطت دولة ثورة 52 بهزيمة 1967 وولدت مصر ثانية مع أنور السادات وأصبح كل ما فعله عبدالناصر خيانة ورجاله مراكز قوى وانتقلت مصر من الكتلة الشرقية إلى الغربية أما فى عهد مبارك فقد كتب رئيس تحرير الأهرام يوم عيد ميلاد مبارك يهنئه قائلا لقد ولدت مصر مع مبارك، كل هذه الانقطاعات التاريخية لم تجعل هنالك ما يسمى بالتراكم التاريخى أو الخبرة التاريخية فمن الرأسمالية والإقطاع إلى الاشتراكية والتأميم ثم الانفتاح سداح مداح وأخيرا إلى سياسة اللا لون واللا طعم واللا رائحة فى عهد مبارك، لذلك عندما قامت ثورة 25 يناير لم تكن هناك خبرات تاريخية تقلل من الخسائر، ولم تستفد مصر من خبرات الآخرين فالناضج هو الذى يتعلم من خبراته أما الأكثر نضجا فيتعلم من خبرات الآخرين ومع ذلك لم تتعلم مصر لا من خبرة أوروبا ولا حتى من خبرة العراق وتونس والصومال… سواء سلبا أو إيجابا والذى لا يتعلم من خبراته أو خبرات الآخرين يدفع أكثر وكان بإمكانه أن يدفع أقل.
ثانيا: لأننا شعب لم تكن السياسة من أولوياتنا فى أى وقت:
من أهم تعريفات السياسة أنها عملية تنظيم كيف يعيش المواطنون فى بلد ما على اختلاف أطيافهم معا فى مجتمع واحد، ففى الديمقراطيات كل مواطن له مكان فى العملية السياسية ويمكنه التعبير عن رأيه الشخصى دون خوف ونموذج المجتمع السياسى دولة لبنان ففى لبنان تجد الطفل يتحدث بوعى سياسى واضح ويعبر عن رأيه دون خوف أو رهبة أما فى مصر فليس هناك ما يسمى بالثقافة السياسية أو الوعى السياسى فمعظم الشعب المصرى متغيب تماما عن الساحة السياسية، أو يمكن القول إنه قد غيب عمدا وحجة الأمية ليست ذات موضوع لأن الشعب الهندى من الشعوب ذات الثقافة السياسية المرتفعة رغم الفقر والجهل والمرض، أما فى مصر فالسياسة عند البعض حرام، وعند البعض الآخر لا جدوى من ورائها وعند البعض الأخير أنها لنوعية معينة من البشر قادرة على المناورة والعراك وفرض ذاتها على المجتمع بنفوذها ومالها، وبالنظر إلى الملعب السياسى بعد 25 يناير نجد أن معظم اللاعبين هواة وليسوا بمحترفين ولأن الثورة قامت فى وسط شعب ليست السياسة من أولوياته فقد دفعت ثمنا غاليا لم تدفعه دول نظيرها.
ثالثا: لأننا شعب نتبنى ثقافة الاستشهاد:
فالاستشهاد لأجل مبدأ شىء رائع ومتسام، قال أحدهم: «إن الحياة لأجل تحقيق مبدأ أصعب كثيرا من الاستشهاد لأجله «وهذه مقولة صحيحة تماما فأنا أعرف الكثير من المقربين والأصدقاء لديهم الاستعداد للموت والاستشهاد لأجل دينهم لكنهم لا يعرفون أى تفاصيل عن مبادئ ذلك الدين، ففى التراث المسيحى فى القرون الأولى وعصور الاستشهاد كان مسيحيون يسلمون أنفسهم للسلطات التى تضطهدهم ويعترفون بإيمانهم لا لشىء إلا لينالوا الشهادة وفى قضايا الجهاد والتكفير والهجرة كان الشباب المتطرف الذى يقوم بعمليات ضد الجيش والشرطة تؤدى إلى استشهادهم حتما كانوا غير حافظين للنص القرآنى (ملفات قضايا الجهاد) وغير مدركين لمعناه، ومعظمهم يستقى معلوماته عن الدين من أمير الجماعة إن الاستشهاد لتحقيق الحرية والعدالة شىء رائع لكن تطبيق الحرية والعدالة فى حياتنا الشخصية ومع من حولنا أروع وأعظم وأكثر فائدة لذلك فثقافة الاستشهاد تجعلنا ندفع أكثر بينما يمكن أن نحقق ما نريد بثمن أقل.
رابعا: لأننا شعب (كنا فى جرة وطلعنا لبرة):
من أهم العوامل التى جعلتنا ندفع الكثير من الوقت والجهد والعرق والدم مع أنه كان يمكن اختصار كل هذا هو أننا كشعب مصر كنا فى (جرة) لمدة ستين عاما ثم فجأة انكسرت الجرة، فلم نستطع أن نفتح عيوننا فى الضوء، ولا أن نقف على أقدامنا ثابتين، لقد نسينا كيف نتحاور مع بعضنا البعض وكيف نعبر عن أنفسنا، بل ولم نحاول أن نقف على أرضية مشتركة، لقد صرنا مثل الطفل الذى ولد لأب محروم من الأولاد وخاف عليه من المرض والموت فوضعه فى حضانة ضخمة ليوفر له الهواء النقى والماء النقى وبعد عشرين عاما أخرجه للعالم الطبيعى فاكتشف أنه تخلف عقليا وصحيا وغير قادر على التواصل مع الآخرين، لقد كانت ثورة 25 يناير بمثابة كسر الجرة مما جعلنا غير مصدقين أنفسنا وغير قادرين على التفاهم وليس لنا ثقة فى أحد وهكذا ندفع كل يوم ثمنا غاليا جدا من أنفسنا ومن اقتصادنا وأماننا ولا يدرى أحد حتى اليوم كم وكيف الثمن المتبقى لاستقرار مصر وبنائها بطريقة صحيحة.