مصر الثورة بين المعنى والفوضى
نشر فى : الخميس 8 سبتمبر 2011 – 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 8 سبتمبر 2011 – 9:00 ص
بثورة 25 يناير حدثت نشوى عارمة وتفاؤل عجيب بأننا أخيرا قد وجدنا معنى لحياتنا كمصريين، لكن لعلك عزيزى القارئ تتفق معى بأن مصر تعيش هذه الأيام حالة من الفوضى، تلك الفوضى الضاربة فى كل مناحى الحياة، فإذا كنا بعد قيام ثورة 25 يناير استبشرنا خيرا، إلا أنه بقفز التيارات الإسلامية على الثورة، افتقدت الثورة قيادة واضحة المعالم هذا فضلا عن تعيين وزارة بلا قدرة على اتخاذ القرار والمجلس العسكرى، الذى يعتبر هو القوة الوحيدة على الأرض، لم تتضح اتجاهاته بعد، هذه الحالة من الفوضى انعكست على معظم مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة، وقد أصبح الحديث عن الضبط والربط (النظام) حديثا لا معنى له، والحديث عن الاستثمار والسياحة لا مكان له ولا قيمة تذكر.
أما الحديث عن الكنيسة والمسجد ودورهما، الذى فقد معالمه فهو حديث ذو شجون، ولأن الفوضى ضربت كل هؤلاء فى مقتل، فلقد أصبح وجودهم بلا معنى حقيقى لدرجة أن الكثيرين اليوم يتحدثون عن حقبة زمنية تفتقد المعنى، فهناك مرارة فى الحلوق لأن المستقبل غير معلوم وغير محدد المعالم، مما أفقد الحاضر معناه، فالأفراد متوترون والجماعات لا هدف محدد وواضح لهم، حيث يخرجون للتظاهرات يرفعون شعارات فقدت معناها من كثرة استخدامها ومع ذلك ينضم لكل من يخرج لأى تظاهرة أعداد مهولة قبل أن يسألوا أو يعرفوا لماذا هذه التظاهرة!
●●●
لا شك أنه فقدان المعنى، لقد رفعت الثورة شعارات رائعة.. العدالة، المساواة، الحرية، الديمقراطية وكل هذه الشعارات يحتاجها البشر لكن الناس فى حاجة أشد إلى المعنى. هناك أمور كثيرة مفروض أن لها معنى فالصداقة لها معنى والحب له معنى والثقافة لها معنى والتدين له معنى والعدالة لها معنى، لكن الجميع يتساءلون: أين المعنى الآن فى كل ذلك؟
فإذا كان السائر بسيارته فى الطريق لا يضمن العودة إلى منزله بها! وإذا كانت الفتاة التى تسير فى الشارع تمتهن كرامتها بتحرش فظ! وإذا كان صاحب فتوى إرضاع الكبير هو أحد القادة الكبار للثورة.
وإذا كان ضابط الأمن يهرب من مواجهة البلطجى والبلطجى يموت شنقا وهو فى قبضة الأمن فى داخل السجن، والشاب المصرى يموت غرقا فى محاولة فاشلة للهجرة! فأين المعنى؟!
كل هذا يجعلنا نطرح السؤال من الذى سيتغلب فى آخر الأمر: المعنى أم اللامعنى؟!
والسؤال ترى لماذا فقدنا المعنى فى وقت كان من المناسب تماما الإمساك به، وذلك بسبب الثورة الرائعة التى قام بها شباب مصر؟
●●●
فى رأيى أن الأسباب الحقيقية لهذه الفوضى نتيجة فقدان المعنى ثلاثة:
الأول: هناك من يريد تحديث مصر دون أخذ التدين فى الاعتبار:
ولقد كانت هذه خطيئة الغرب الكبرى فى تعامله مع المنطقة العربية، ففى الفترة الليبرالية والممتدة من بداية العشرينيات حتى بداية الخمسينيات من القرن السابق، كانت هناك محاولات مستميتة لتحديث مصرعن طريق ديمقراطية ليبرالية، لكن هذه المحاولات فشلت رغم تبنى مثقفى الداخل لها من سعد زغلول ولطفى السيد وطه حسين. ولويس عوض.. وكل هؤلاء لم يضعوا فى محاولاتهم لتحديث مصر التدين كعامل أساسى، وبعد ثورة 1952 امتد التيار اليسارى الإشتراكى والمضاد للرأسماليه والديمقراطية الليبراليه محاولا بإخلاص تحديث مصر لكنه وقع فى نفس المأزق، حيث لم يعط بالا للتدين كأحد العناصر المهمة فى تحديث بلادنا، وما زال هؤلاء وأولئك بيننا يحاربون التدين مع أنه من أهم السمات المكونة للشخصية المصرية لذلك فشلت جميع المحاولات الداخلية والخارجية، التى همشت التدين فى عملية التحديث، هذا رغم أن التدين أحد الروافد الهادمة جدا فى الشخصية المصرية إن أردنا تحديثها.
الثانى: هناك من يريد تديين الحداثة بدلا من تحديث الفكر الدينى:
إن القيادات والمفكرين الدينيين لدينا سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين ينطبق عليهم مقولة صموئيل هتنجتون: «المسلمون يسعون إلى أسلمة الحداثة بدلا من سعيهم إلى تحديث الإسلام»، إن الفقهاء المسلمين واللاهوتيين المسيحيين والوعاظ يتجهون إلى تديين الحداثة لأنه الطريق الأسهل والأكثر شعبية، أما الذين حاولوا تحديث الفكر الدينى، وهو الطريق الأصعب اضطهدوا من أساتذة تديين الحداثة والجماهير، التى تتبعهم كالقطيع فعاش المفكرون الجادون على هامش المجتمع.
لقد حاول الأفغانى أن يحدث الفكر الدينى ولخص فلسفته بالقول: «إن كل إيمان يكون خلفه الدين سوف يمحو الفلسفة»، وهو هنا يفرق بين الإيمان والدين أى الدوجما (العقيدة التى لا تقبل الحوار أو التجديد)، وقد حاول هذا أيضا الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبدالرازق وغيرهم كثير، وهؤلاء يتبنون نظرية تاريخية النص وتفسيره على أساس فقه أو لاهوت الواقع (التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية). لكن المدرسة الأولى يخضعون كل هذه التغيرات لحرفية النص وظاهره دون المعنى الروحى من وراء الكلمات الذى يصلح لكل زمان ومكان، ولأن مدرسة التفسير لظاهر وحرفية النص هى التى سادت على مدى العصور كانت النتيجة أن فقد تفسير هذه النصوص المقدسة قدرته على التعامل مع الواقع المعاصر المتجدد.
إن البعض الذى يحاول القول إن كل النظريات العلمية والاختراعات الحديثة إنما هى فى بطون الكتب المقدسة والبعض الآخر، الذى يخلط بين الوطنية والتدين ويعلن أن غير المتدينين ليسوا بوطنيين، والبعض الأخير الذى يعتبر أن الدولة الإسلامية هى دولة مدنية حديثة. فكل هؤلاء إنما يحاولون تديين الحداثة بدلا من تحديث التفسير فلا هم محدثون ولا متفقهون.
الثالث: هناك من يعتبر أن كل ثائر مجدد أو فيلسوف:
لقد امتلأ الهواء الإعلامى والصحافة المكتوبة والمواقع الإلكترونية بالذين خرجوا إلى ميدان التحرير باعتبار أن كل ثائر مجدد أو فيلسوف لكن هناك مقولة فلسفية نصها: «إن العقول العظيمة تناقش الأفكار، أما العقول المتوسطة فتناقش الحوادث، بينما تناقش العقول الصغيرة الشخصيات».
ومعظم الثوار الذين نسمعهم ونشاهدهم أو نقرأ لهم يناقشون الشخصيات والأحداث وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أنهم انقسموا على أنفسهم، وهاجموا بعضهم بعضا، ولنأخذ نموذجا لهذا اثنين من الثوار، وهما يتصارعان على من فيهما الذى أنزل العلم الإسرائيلى من على مبنى السفارة، وقد وصلت هذه القضية إلى المحكمة!
عزيزى القارئ هل أدركت معى الآن لماذا فقدنا المعنى ونعيش الفوضى؟