كان الجماد أسعد حالاً وأوفر حظاً مني … الخاطئة هذا هو اللقب الذي لحق بكل ما يرتبط بي … فبيتي يسمونه بيت الخاطئة، وإذا سألت يدلونك عن الحي المسمى بحي الخاطئة، وكأن الخاطئة علم قدر اتسخت به المدينة كلها، علم يجذب إليه كل من تسول له نفسه التمرغ في الوحل.
أما مَن أنا؟ وما اسمي؟ فلا تسل عنه، فلقد ضاع مني وسط كومة الأوحال! أهلي نفروا بعيدًا سحبوا لقبهم مني فصرت وحيدة کشجرة عارية على قارعة الطريق! آه لقد تهت وسط وادي الخطايا العميق الجميع في المدينة يعرفون قصتي مع الشر والسفه، حتى الأطفال يهربون مني إذا رأوني صائحين في ذعر إنها الخاطئة.
كنت أرتدى أفخر الثياب، أتعطر بأطيب العطور؛ كنت أملك الدنيا بقرونها، وأخضعها لإرادتي، لكن آه ضاع كل هذا، فقد كانت قذارة سلوكي وسمعتي المشوهة تسبقني حيثما أذهب وأينما أكون. لي مع الجريمة تاريخٌ طويلٌ رسم خطوطه الآثمة في أشرف العائلات وأعرقها بتلك المدينة التي أقطنها فأنا أبحث عن ضحيتي وأنتقيها، أنصب لها الفخاخ بمكر ودهاء ولي من الحيل ما يكفي للإيقاع بالأقوياء والأبرياء، الشرفاء والأغنياء هكذا كنت أفعل حتى علت صيحات العار والفضيحة في أرجاء المدينة تهز أساساتها وفى كل مرة يتردد الصدى إنها الخاطئة. لقد نثرت الهوان يمينًا ويسارًا، فزرعت الضياع في كل رقعة أرض ومكان لقدم، فجوري ومجوني أطلقته كسهام مشتعلة في بدن كل من عرفني.
أجل هذا ما كنت أفعله حتى صغرت نفسي في عيني وحسدت الحيوان ورأيته أشرف وأنبل مني. إني امرأة محطمة فالظلام ينشر ستائره حولي. يكتنفني ويطويني فضاع منى القلق الهموم .. شيطان الإثم يتوعدني. غضب الآلهة يلهبني. هل ترى أحلامي المفزعة؟! نيران الجحيم تفغر فاها .. ضحكات الهاوية ترعب عيناي، تصم آذاني، أراني في مجلس الشياطين أشاركهم جرعات الشر، وكؤوس الموت تنتظرني.
في الصباح أستيقظ بشبح الخاطئة، يلاحقني إلى الضحى عبثي ولهوي، وأخيرًا أمسي بلعنات مدينة بأسرها حتى تمنيت الموت وألححت في طلبه، أتاني شبح الموت مجاوبًا: “إن أمثالك أحط من أن آخذهم ابعدي عنى وابتعدي».
بحثت عن بارقة أمل، وميض نور لهذه الدياجير. محط أضع عليه قدمي، لكن هيهات كيف أجد الطريق؟ لقد خيَّم عليَّ قنوط مطبق، يأس مهيب، صرخات الندم يدوى ترددها في أعماقي .. الفاسدة .. الحمقاء .. الفاسقة .. اللعينة، كاد الجنون يمسني يلحق بعقلي. آه كيف الفكاك؟ متى يكون لي! مَن يقدر أن يخلص؟! صادقةٌ أنا وأرجو أن أتوب؛ فهل يدركني الغفران؟ وهنا هتف بداخلي نداء أصخت له السمع.
“هناك مخلص قادر مهوب يعطى الخلاص لسائله، ويهب الموتى حياة، يحب الخطاة ويقبل توبهم، لا يحتقر أمثالي، فالحب والحنان طابعيه. رقيق لا يزجر، بل أنه فتيلة مدخنة لا يُطفىء، وقصبة مرضوضة لا يقصف».
خرجت أسال عنه، هدفي الوحيد، أملى الجديد. رجائي لكل انهيار عانيته. تحققت إنه رؤوف سيقبلني سيرثى لحالي .. ووسط حيرتي وتساؤلاتي سمعت ما أذيع عنه. سيذهب لحفل سمعان الفريسي. راودني خاطر بالتوجه إليه للتو. اقشعر بدني انتفضت. مَن أنا؟ كيف أجرؤ وأرفع عيني إليه لعله ينتهرني. ويوبخني أو يقسو عليَّ، إن رائحة الخطيئة تفوح مني وثوب الإثم يكشفني ليلة بطولها أرقتني الخواطر. النوم لم يعرف طريقه إلى جفوني، ليلة حالكة السواد تلك التي قضيتها، وقبيل الصباح كان ثمة أمل جديد طرق ذهني، قد تكون هذه الفرصة الأخيرة، إن لم أستغلها، وتركتها تمضي فيضيع كل أمل وأكون قد قُتلت .. سأذهب إليه أنحنى عند قدميه فمثل ذلك الشخص لا مقام لمثلي يعلو أقدامه.
سنحت الفرصة، خرجت هائمة على وجهي، أمامي هدفي الأوحد الذي أوصلني إليه، وفى بيت الفريسي جئت بقارورة طيبٍ تليق بمثل هذا الموقف المهيب. بخضوع تام ونحيب حار بللت قدميه وجففتهما بشعر رأسي قبلتهما ودهنتهما بطيبي.
لم أقل كلمة واحدة فقد عرف نجوى خاطري وسريرة نفسي فلم يردني بل قبل توبتي. لامه البعض وهتف به آخرون (إنها الخاطئة، لم يبالِ، درأ على كل خطر، دفع الهزء والسخرية عني، ثم التفت إليَّ مخاطبًا بعينه “اذهبي بسلامٍ ولا تعودي للخطيئة”، فغاص قلبي في جنبي. ضاعت مني غرائز البطش والجبروت، شملتني موجة الفرح بالغفران، صارت نفسي صافية كالماء، بسيطة كالطفل.
إن قريحتي لم تعد تذكر الخطايا والآثام، تغير اسمي الذي طالما اشمأزت منه نفسي ونفرت، شربت من ينابيع الشركة الله مع وتذوقتها .. ماذا أرد لك إلهي؟ إنك أحسنت لي، إلهي أنا الخاطئة البعيدة عنك، المزدرى، سأبذل قصارى جهدي لخدمتك لأوفي بعض ديني، ليس في مقدوري أن أفي الدين لأني لا أستطيع دفع ثمن حياتي “أما أنا فأتبعك دائمًا أيها الرب إلهي”.
تم نشر هذه المقال في مجلة “أجنحة النسور” العدد 314 سبتمبر 1986