أراء فكريةقضايا وأراء

صرخة فتاة عربية تخترق الزمن

صرخة فتاة عربية تخترق الزمن

إكرام لمعي

نشر فى : الخميس 7 يوليه 2011 – 9:40 ص | آخر تحديث : الخميس 7 يوليه 2011 – 9:40 ص

 فى عام 1982 كنت ضمن مجموعة تتلقى دراسات عن العلاقات الدولية وفض المنازعات فى أحد المعاهد بسويسرا، وكان الدارسون ينتمون لمعظم بلدان العالم.عندما حل موعد عيد الميلاد قامت اللجنة الاجتماعية بالمعهد بتوزيع الدارسين من غير الأوروبيين، وغير القادرين على العودة إلى بلادهم لبعد المسافة على عائلات تقبل استضافة مثل هؤلاء الدارسين، ليقضوا معهم إجازة عيد الميلاد وكان نصيبى مع عائلة ألمانية تقطن فى مدينة تدعى مانهايم، وعلمت أنه عندما سألهم المعهد عن استعدادهم لاستضافة طالب غير أوروبى أثناء أعياد الميلاد سألوا مباشرة إن كان هناك مصرى بين الطلبة، ولم يكن هناك سواى، وبمجرد وصولى إلى محطة قطار مانهايم وجدت الأسرة بكاملها فى انتظارى الأب والأم والابن والابنة، يحملون باقة ورود وصاحوا معا أهلا (بأخناتون) فضحكت ومنذ لحظة ركوبى فى السيارة لم تكف أسئلتهم لى عن مصر على طول الطريق حيث كان مصرع السادات، وتولى مبارك ما زال ماثلا فى الأذهان رغم مرور أكثر من عام عليه، ذلك لأن التغييرات كانت متسارعة، ومعظم أسئلتهم كانت عن توجهات مبارك وخبراته السياسية وهل هو محنك مثل السادات أم لا؟.. والحقيقة لقد شعرت بالفخر لأن معظم حديثهم كان عن عظمة السادات رجل السلام، والذى لقى مصرعه بسبب ما يؤمن به أو بسبب رؤيته للسلام فى المنطقة.
 
 <<<
 
وبعد وصولنا للمنزل كانت السهرة عن حالة مصر وقد سأل الشاب عن شباب مصر، وسألت الفتاة عن وضع المرأة فى مصر ومدى مشاركتها فى الحياة العامة.. واقترحت الفتاة بعد الحديث عن المرأة فى مصر أن نذهب فى اليوم التالى إلى قلعة عمرها أكثر من خمسمائة عام لأنها تحمل هناك مفاجأة لى، فوافقت على الفور، وفى اليوم التالى ذهبنا إلى مدينة تدعى هامبورج حيث توجد القلعة، والتى كانت تحتل مساحة شاسعة من الأرض وكانت ألمانيا فى ذلك الوقت مقسمة إلى مقاطعات، وكل مقاطعة يحكمها (دوق) كان يعيش فى تلك القلعة الفخمة والمحصنة بصورة رهيبة، ولقد كان الدوق حاكم المقاطعة مثقفا وفنانا عظيما لذلك شيد فى قلعته معبدا رومانيا لجوبتر يعتبر متحفا قائما بذاته وبجواره كان هناك معبد يونانى رائع، وبينهما بحيرة متجمدة المياه فى ذلك الوقت، ولكن المفاجأة التى أرادت الفتاة أن تفاجئنى بها هى أن الدوق قام ببناء مسجد بجوار هذين المعبدين منذ خمسمائة عام.
 
 
استدعى والد الفتاة مرشدا سياحيا ليحكى لنا قصة هذا المسجد فقال، منذ خمسمائة عام كان الدوق فى زيارة لملك إحدى الدول العربية الإسلامية وبعد إقامته وأثناء وداعه قدم له الملك العربى فتاة رائعة الجمال، قائلا له: لابد وأن تتذوق الجمال العربى يا صديقى الدوق (كفاك من العيون الزرقاء والشعر الأصفر) لكن هذه الفتاة الجميلة منذ أن وطأت قدمها قلعة الدوق لم تبتسم مرة واحدة، وكانت دائما تبدو حزينة رغم عناية الدوق وخدمة نسائه لها، فهى لم تكن معتادة إطلاقا على مثل هذه الحياة، ولأن الدوق كان يحبها، ورأى أنها ترفض الرقص وشرب الخمور.
 
 
أراد أن يخفف عنها حزنها فبنى لها مسجدا، وعندما استدعاها الدوق لزيارة المسجد بعد الانتهاء منه، أبدت سرورا متحفظا، وقالت للدوق إن المساجد فى تصميمها يكتب عليها باللغة العربية وحيث لم يكن هناك أحد يعرف اللغة العربية فى ذلك الوقت فى ألمانيا، طلب منها أن تكتب ما تشاء، وسوف يقوم أحد الرسامين المشهورين برسم هذه الكلمات على جدران المسجد، وأشار المرشد إلى الكلمات التى رسمتها الفتاة، ولأول وهلة ظننت أنها آيات قرآنية، أو بعض أسماء الله الحسنى، فاقتربت أكثر بعد أن قال المرشد هل يمكنك فهم هذه الكلمات.. وهل يمكنك ترجمتها؟ وأردف قائلا: أنا بالطبع أعرف ترجمتها لكن أريد التأكد منك وتقدمت أكثر، وعندما استطعت القراءة بوضوح فوجئت أن ما رسمته هذه الفتاة على جدران المسجد لم يكن آيات قرآنية، لكنها كانت بعض الأمثلة الشعبية وبعض العبارات التى تحكى من خلالها مأساتها فقد كتبت هذه الفتاة (إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)، (الوحدة أفضل من صحبة الأشرار)، (من غير حبه عاش حزينا)، ولقد تسمرت فى مكانى وتأثرت جدا واغرورقت عيناى بالدموع فلقد رنت فى إذنى صرخة فتاة عربية أطلقتها منذ خمسمائة عام، وأرسلتها فى رسالة لكل عربى يمر من هنا.
 
 <<<
 
لقد قالت فى هذه الجمل الثلاث ما قالته المرأة العربية على مدى الخمسمائة عام فى مجلدات مكتوبة، وفى منظمات لحقوق المرأة وفى برامج تليفزيونية، لقد قالت، لقد أهدانى ملكى العربى وكأنى شىء وليس إنسانا إلى صديقه الأوروبى ليستمتع بى.
 
 
ولقد احتقرت ملكى العربى كما احتقرت ملكى الغربى، الذى اغتصبنى وفيهما كرهت جميع الرجال، وبالتالى فضلت الصمت على الكلام، ولم أتفوه إلا بما هو ضرورى، وكان صمتى وسيلة للتعبير عن احتجاجى ضد قسوة الرجل سواء كان شرقيا او غربيا، ولقد فضلت أن أعيش وحيدة وهذه الوحدة أفضل كثيرا من صحبة الأشرار وتقصد بالأشرار هنا الرجال والنساء الأوروبيين، والذين يعيشون الحضارة الغربية، والتى لم تجد ذاتها تتواءم مع مثل هذه الحضارة ففضلت الانزواء بعيدا، وأخيرا ذكرت سبب حزنها الحقيقى، أنها قد حرمت من حبيبها العربى، التى كانت تود أن تزف إليه، بسبب قسوة ملكها فعاشت حزينة، واعتقد أن الجملة الأخيرة من تأليفها (من غير حبه عاش حزينا)، فالجملتان الأولتان معروفتان كمثلين شعبيين.
 
 
لقد حطمت هذه الفتاة سطوة الرجال فى اعلى سلطة لهم غربا وشرقا، لم تنحن لأحدهم ولم تعط قلبها وفكرها وجسدها مختارة لأحد واحتفظت بهم لحبيبها، الذى لم تلتقه بعد تركها لبلادها وحتى مماتها أنها الرومانسية فى أسمى تجلياتها واخترقت رسالتها الزمن لمدة خمسة قرون، وسوف يتردد صدى هذه الصرخة حتى تتحرر المرأة العربية من عبوديتها التى تعيشها، لم يعد فى الغرب رق، ولا يقدر ملك عربى أن يقدم امرأة عربية اليوم هدية، لكن ألا يحدث بين الدول العربية الفقيرة والدول الغنية ما يشبه ذلك؟ ألا يبيع الآباء الفقراء بناتهم فى سوق النخاسة، ألا ترزح المرأة العربية تحت نير العبودية حتى اليوم؟
 
 
إننى أهدى كلمات هذه الفتاة لكل امرأة عربية مقهورة فى بيتها أو عملها أو مجتمعها، إلى الجوارى اللاتى يعشن بيننا راضيات.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى