العبث بالتركيبة السكانية
نشر فى : الخميس 6 يناير 2011 – 11:28 ص | آخر تحديث : الخميس 6 يناير 2011 – 11:28 ص
لكل دولة فى العالم تركيبة سكانية منفردة، هذه التركيبة بنيت على التاريخ والجغرافيا والثقافة السائدة، فالتاريخ يوضح لنا كيف نشأت هذه التركيبة، متى بدأت؟ وبمن بدأت؟ ثم الأحداث على مر التاريخ من حيث الحروب والغزوات والهجرات وتداخل العناصر والجينات.. إلخ حتى ترسخت واستقرت تركيبة معينة، من الصعب رؤية البلاد بدون هذه التركيبة، ثم تأتى الجغرافيا أى طبيعة البلاد إن كانت صحراوية أو خضراء أو جبلية.. إلخ، واشتراكها فى الحدود مع الدول الأخرى، وصعوبة مناخها أو سهولته، كل هذا يشكل طبيعة الشعوب التى نعيش فيها ثم تأتى الثقافة والتى تحتوى على الدين والفن والأدب والفلسفة.. إلخ، هذه التركيبة تحدد هوية البلاد، وكلما استقرت الهوية على مدى مئات السنين ازدهرت البلاد وأصبحت بتركيبتها المميزة والمتفردة قادرة على التواصل مع العالم وقادرة على النمو، وهذا حدث فى أوروبا وأمريكا ودول العام الثالث، والفرق بين العالم الأول والعالم الثالث، أن العالم الأول يرفض تماما العبث بهويته من خلال حرصه على التركيبة السكانية، بينما العالم الثالث يستسلم للعبث بهويته من خلال اندفاع القيادات السياسية للعبث بتركيبته السكانية تحت ضغوط المتطرفين والإرهاب ومحاولة إرضاء جميع الأطراف واكتساب الشعبية، ونرى أن العبث بالتركيبة السكانية يؤدى إلى نتائج فى منتهى الخطورة تتلخص فيما يلى:
أولا: تشويه الهوية واهتزاز القيم والاغتراب الداخلى
نحن نتعجب كثيرا بل ونلوم الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لموقفهما من المهاجرين إليهما، فبينما يتحدثون عن الحضارة الليبرالية وقبول الآخر والديمقراطية والحرية نراهم يرفضون ممارسات المهاجرين سواء فى أسلوب لباسهم أو وجودهم فى تجمعات منغلقة أو عدم اندماجهم فى المجتمع، وكثيرا ما نقوم بمواجهتهم لأنهم يعانون من الإسلاموفوبيا، والحقيقة غير ذلك تماما، فأوروبا ليست دولا مسيحية بالمعنى المعروف لدينا أو المصطلح عليه إنها دول علمانية لا تهتم بالدين، فالدين أمر شخصى بحت ولا يهتمون بأن تتحول أعداد من شعوبهم إلى الإسلام أو البوذية أو الإلحاد، لكن هذه الدول عانت كثيرا من سيطرة رجال الدين والكنيسة على بلدانهم، وقدموا شهداء كثيرين للتحرر من طغيان الباباوات والحكم باسم الله حتى قامت ثورة الإصلاح وفصلت بين الدين والدولة، وثبتت الدولة على دعائم الفكر الليبرالى والذى يحتوى على الديمقراطية والحرية الشخصية، لذلك هم لا يرفضون الإسلام، لكنهم يرفضون موقف بعض المسلمين المهاجرين إليها، وتحديهم لهذه الحضارة التى استقبلتهم وهم مهاجرون لأسباب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فإذ بهم يستغلون الحرية المتاحة فى محاولة لفرض هويتهم الخاصة على المجتمع وتغيير هوية المجتمعات التى يهاجرون إليها، ويستخدمون فى ذلك فلسفة التقية، فهم يهاجمون كل ما هو غربى، ويرفضون العلمانية وقوانين البلاد.. إلخ.
فى زيارتى للدنمارك فى نهاية التسعينيات قمت بزيارة المركز الإسلامى هناك مع وفد مصرى وهناك علمنا من رئيس المركز أن هدف المركز هو تحويل الدنمارك إلى مجتمع إسلامى! أما عندما التقينا المسئولين الدانماركيين قالوا إنهم يؤمنون بالمسيحية كثقافة وحضارة ويعيشون العلمانية وتحدثوا معنا قائلين: إن لهم شهداء بذلوا دماءهم لأجل ترسيخ دعائم المجتمع العلمانى وهم يرفضون أى طغيان من أى رجال دين آخرين، حتى لا يحطموا هويتهم، وإذا قبلوا المهاجرين وتركوا كل جماعة تسيطر على منطقة وتمارس حياتها وكأنها فى بلدانها الأصلية، فهذا سيحدث خللا فى التركيبة السكانية يصيب الهوية فى مقتل، ويحدث ما يسمى بالاغتراب الداخلى، وهذا عكس ما يحدث لدينا فالمصريون عندما عادوا من الخليج بلباسهم وأسلوبهم فى الحياة استطاعوا أن يغيروا التركيبة السكانية بحيث أصبحت الغالبية العظمى من المصريين ينحون نحو التطرف ورفض الآخر سواء فى ملبسهم أو فى تصرفاتهم وهو نفس ما فعله النميرى عندما قرر تطبيق الشريعة فى السودان فقام بعزل الجنوب.. إلخ، فالعبث بالتركيبة السكانية يؤدى إلى تشويه الهوية، وما يحدث اليوم من عمليات إرهابية للمسيحيين فى العراق ومصر وتضييق الخناق عليهم فى فلسطين خاصة فى غزة أدى إلى هجرات جماعية للمسيحيين خارج الوطن العربى مما يؤدى إلى تشويه هوية الوطن واهتزاز القيم والاغتراب الداخلى.
ثانيا: تكريس تركيبة اجتماعية منغلقة ومتوحشة
فالعبث الذى قام به النميرى ومن بعده البشير أدى إلى الاستفتاء على فصل جنوب البلاد عن شمالها، وليس ذلك فقط بل سوف تكون هناك تداعيات فى منتهى الخطورة، فمشكلة دارفور سوف تزداد حدة وإحراجا للدولة السودانية الشمالية هذا فضلا عن إلقاء الجنوب بنفسه فى أحضان أمريكا وإسرائيل مما سيسبب مشاكل لا حصر لها سواء لها أو لمصر، هذا فضلا عن أن التركيبة الاجتماعية داخل السودان سوف يكون لديها إحساس بالخسارة سواء لحصة المياه أو البترول أو المصادر الطبيعية فى الجنوب، وقبل وبعد كل ذلك سوف تنشأ أجيال ترفض الآخر الدينى والآخر المذهبى والآخر الجنسى (المرأة) والعرقى.. إلخ فالانفصال بسبب رفض الآخر كمبدأ سيولد رفضا للآخرين بل ويحول الأصدقاء إلى أعداء، إنها تأسيس لمبدأ الانغلاق الاجتماعى على الذات والحياة فى مجتمع موحش لا توجد فيه ألوان وتباينات فكرية تكمل بعضها بعضا وكما يقول المثل: «إن زهرة واحدة لا تصنع ربيعا» وأن السيمفونية تنطلق من الفارق بين النغمات وكذلك الهويات المختلفة والمتعددة تلد حضارة إنسانية متميزة رائعة، عندما خرج السوفييت من أفغانستان وانتقل الحكم إلى الوطنيين وقامت الحروب بين القبائل.. إنه الانغلاق الذى أدى إلى توحش.
وهكذا إذا هاجر المسيحيون من الشرق الأوسط ـــ وهم جزء أصيل من الحضارة العربية، وقد أسهموا بوجودهم فى حضارة عربية إسلامية منفتحة على العالم تتواصل بقوة مع كل الحضارات ــــ سوف تتحول حضارتنا إلى الأحادية الجافة القاسية، بل إن المسيحيين كانوا يعتبرون الجسر العربى لكثير من البلدان غربا وشرقا، ولذلك نجد أن مصر وسوريا والعراق ولبنان كانوا أكثر تحضرا ورقيا وقبولا للآخر من الدول العربية الإسلامية (دول الخليج) التى لا يوجد بها مسيحيون، وإذا عبثنا بالتركيبة السكنية فأفرغنا الشرق الوسط من المسيحيين كما فعلنا مع اليهود من الأصول العربية ستتحول مجتمعاتنا إلى أماكن موحشة منغلقة، وتخرج أجيالا لا تعرف قبول الآخر.
وهكذا يتبدل الواقع كما يحدث الآن فدول الخليج امتلأت بالأجانب سواء من الشرق أو الغرب لذلك تقدمت وتحضرت وتعلمت كيف تتحدث إلى العالم، أما الدول التى كانت هى الرائدة فى ذلك مثل مصر والعراق ولبنان بدأت تأخذ موقعا متأخرا فى هذا الشأن وازداد الصراع داخلها بين مسيحييها ومسلميها وسنتها وشيعتها.. إلخ
فى النهاية نقول: إن شرق أوسط إسلامى بدون أكراد ومسيحيين والآخر بكل تنوعاته هو خيانة للإسلام الذى نعرفه، الذى قام على قبول الآخر وحماية الأقليات فى عصور الازدهار، أو هذا على الأقل ما نعرفه تاريخيا ونرجوه فى المستقبل.