. بطرس فالدو Peter Waldo
بطرس فالدور، مؤسس الفالدينية، كان تاجرًا من وجهاء مدينة “ليون” الفرنسية، وذات يوم أثناء حضوره لاجتماع مجلس المدينة، حدث أن توفى أحد أصدقاءه فجأة، فتأثر بهذا الحدث جدًا، وراح يفكر ويتساءل لربما انتقل هكذا فجأة، فإلى أين سيكون مصيره؟
ولأنه أراد أن يُرضي الله، قصد أحد رجال الله يسأله، كيف يحيا حياة القداسة العملية، فجاءته الإجابة من خلال قول المسيح: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني” (متى 19: 21)، فطبق حرفيا قول المسيح، وذهب باع أمواله ممتلكاته، وبدأ يحيا حياة الفقر الاختياري ولأنه كان يريد أن يعيش الإنجيل عين إثنين ليترجما له الكتاب المقدس إلى اللغة المتداولة، وكان هذا من بدايات ترجمات الكتاب المقدس، وكان فالدو يشجع العمل الكرازي واتخذ من أسلوب المسيح نموذجاً، فكان يُرسل اتباعه اثنين اثنين للتبشير والخدمة، لابسين ثياباً بسيطة، معتمدين في معيشتهم على عطايا سامعيهم.
وقد تميز الفالدنيون بأن جعلوا الكتاب المقدس مركزًا لحياتهم، واتخذوا من أسلوب المسيح الكرازي نموذجاً لهم، وإذا حرمهم رئيس أساقفة ليون، ردد فالدو، قول بطرس الرسول: “ينبغي أن يطاع الله أثر من الناس” (أعمال5: 29)، وقد عانى الفالدنيون كثيراً، ولكنهم لمينكروا إيمانهم، وأسسوا كنيسة في قلب روما، ما زالت شاهدة عن إيمانهم، وقد ذهب إليهم الباب فرنسيس معتذراً عما لحق بهم من اضطهادٍ في العصور الوسطى.
8. أخوية الحياة المشتركة
مع انطلاقة القرن الرابع عشر والخامس عشر، بدأت تنتشر الصوفية عند بعض المفكرين، ومنهم “إيكهارت Eckhart” في ألمانيا، وجيرهارد جروت Gerhard Groot، في هولندا، وقد أكد على أهمية الحياة الكريسية الداخلية، وأن الله يولد داخل القلوب، كان والد جيرهارد يتمتع بمركز مدني جيد، فدرس ابنه في آخن، ثم ألحقه بجامعة باريس، حيث درس الفلسفة المدرسية واللاهوت في كلية السوربون، الذي تابع دراسته في براغ وفي كولونيا، حيث أصبح أستاذا في اللاهوت والفلسفة.
تغيرت حياة جروب إثر تجربة مرضية، انضم على أثرها إلى دير لمدة ثلاث سنوات، قضاها في التأمل والصلاة والدراسة، ثم أصبح واعظاً ومبشراً في إبروشية أوترخيت، ووعظ ضد السيمونية، وفساد رجال الإكليروس، وجذب إليه الكثير من تأثروا بوعظه، ونقاء حياته، وبعد موته، أسس أتباعه “أخوية الحياة المشتركة”. حيث كان يعيش أعضاء الأخوية معًا في منازل عادية، ملتزمين بمراقبة بعضهم البعض في ممارسة الفقر الاختياري، والعفة، وإنكار الذات وحياة التواضع، وكان يحق لأي منهم المغادرة متى شاء، لم يسألوا أو يتلقوا الصدقات والمساعدات المالية، بل كانوا يعيشون معًا
ويعملون لكسب قوتهم، وقد كان هدفهم تنمية الحياة الروحية الداخلية.
وقد كان من مساهمات أخوية الحياة المشتركة، ترجمة الكتاب المقدس، والصلوات باللغة الهولندية حتى يستطيع الناس العاديون قراءتها، وساعدوا في انتشار المدارس لتعليم جيل جديد تحت شعار “لمحبة الله وحده”.
لم ينته القرن الخامس عشر، حتى انتشر نظام هذه الأخوية في كل هولندا وأنحاء من ألمانيا، واستمروا حتى منتصف القرن السابع عشر تقريباً.
بالقطيع كان هناك الكثير من النجوم، مثل القديسة كاترين دي سيينا الإيطالية Catherine of Siena وجان دارك الفرنسية Joan of Arcc، والحركات الرهبانية مثل الدومينيكان The Dominicans والفرنسيسكان The Franciscans، وغيرهم، وإذ كان كل هؤلاء النجوم يتلألأون في ظلام العصور الوسطى وفساد الكنيسة الرومانية وبابواتها، كانوا بسيرتهم ونقاء حياتهم وصلابة إيمانهم يعدون العدة، ويمهدون الطريق لحركة الإصلاح الإنجيلي.
رواد الإصلاح الإنجيلي
استمرت إرهاصات وطلائع الإصلاح الكنسي قروناً طويلة، حتى بدأ يبزغ في الأفق رجالاً رواداً مهدوا الطريق أمام المصلحين الكبار، ولم يكونوا أقل منهم جرأة وشجاعة في سبيل انتصار رسالة الإنجيل، من هؤلاء الرجال:
- جون ويكليف John Wyclif
“جون ويكليف” (1328 ـ 1384)، مصلح ولاهوتي ومترجم مسيحي إنجليزي. تخرج في جامعة أكسفورد وعين أستاذاً فيها، كما عمل مستشاراً لاهوتياً لملك إنجلترا.
وكان كاهنًا لكنيسة لترورز، واكتسب شعبية واسعة، إذ كشف حياة الترف التي كان الإكليروس يعيشونها، وتورطهم في المشكلات السياسية التي لا شأن لها بها، كانت وسيلته في نقاشه معهم أفكار القديس أوغسطينوس وفلسفته، وقد تعرض أيضًا للضرائب التي كانت تفرضها الكنيسة على الأمراء وذوى النفوذ بدعوى العشور.
هاجم “ويكليف” سلطة البابا المطلقة، ومن أقواله في هذا الصدد: “إن الكنيسة ليست متمركزة في البابا والكرادلة لكن في شركة المؤمنين حيث يكون المسيح موجودًا ورئيسًا لها، كما أن ليس للبابا قوة في الربط والحل أكثر من أي كاهن، وعن مسألة الإيمان فأنه لا بجب على أب إنسان أن يتبع البابا أو حتى القديسين إلا عندما يقتدي هؤلاء بالمسيح “لأنه بعد ذلك وصل به الأمر إلى أن وصف البابا بعدو المسيح!”، فإيماننا لن يغيب أو يتزعزع، لأنه مؤسس على يسوع المسيح وحده”.
رفض “ويكليف” عقيدة ومبدأ الاستحالة الجوهرية في العشاء الرباني، والذي ينص بحسب إيمان الكنيسة الرومانية، على أنه بعد أن يصلي الكاهن على عنصري العشاء الرباني، الخبز والكأس، فإنهما يتحولان فعلاً إلى جسد المسيح الحقيقي ودمه، أما “ويكليف” فآمن بأن جسد المسيح ودمه يوجدا حقًا، دون تحويل أو تغيير في الخبز والخمر، وكان هذا أساس فكر لوثر فيما بعد.
كان “ويكليف”، فصيحاً بليغاً، تميز بطهارة الحياة، وشجاعة قول الحق، مناديًا بالخلاص بالإيمان، بالنعمة دون أي استحقاق بشرى على الإطلاق. وقد وعظ مرة قائلاً: “إن الإيمان بقوة الإنسان في عمل الخلاص هو هرطقة روما العظمى، ومن هذا الخطأ جاء خراب الكنيسة، إن التجديد يأتي من نعمة الله وحدها، وأن الإيمان هوعطية الله، إنه يطرح جانبًا كل استحقاق بشري”. وفي هذا يؤكد ويكليف على مبدأين من أهم مبادئ الإصلاح الخمسة، “النعمة وحدها” و “الإيمان وحده”.
أنشا “ويكليف” نظام “الكهنة الفقراء” الذين كان عظمهم من عامة الشعب، حيث كان هؤلاء الكهنة الفقراء، يتجولون كارزين ببشارة المسيح في الأرياف والمدن المجاورة، مرتدين أبسط الملابس، وقد أصبح لهذا النظام قوة سياسية في البرلمان، حتى أنه جابهوا مستنكرين ما تفعله الكنيسة من رذائل وفساد، وطالبوا بإلغاء الاعتراف السري، وعقيدة الاستحالة، والصلاة لأجل الموتى، والتقدمات للصور والأيقونات، وقد علقوا مطالبهم على أبواب كاتدرائية سانت بول بوستمنستر، كما فعل لوثر لاحقًا.
لكن أهم وأعظم ما قام به ويكليف، كان ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية الدارجة، من لغة الفولجاتا اللاتينية، وبهذا استطاع أن يصل كلام الله لرجل الشارع والفقير والجاهل الذين كانوا محرومين منه، ولكن كانت المعارض تصفه بأنه “ألقى الدرر قدام الخنازير”.
ومن أقواله عن الكتاب المقدس: “لا شيء يجب الإيمان به ما لم يكن مؤسسًا على هذا الكتاب، ولا يجب إضافة شيء لتعليمه… هذا الكتاب هو الحق الكامل الذي يجب أن ندرسه، ويدرسه كل مسيحي، فهو نموذج لكل منظور، وإذا كان العلم في أكسفورد يتغير في كثير من الأحيان إلا أن الأسفار المقدسة لا تتغير أبدًا، “نعم نعم، لا لا” لن كلمة الله باقي إلى الأبد”، وكأن ويكليف يعلن انضمامه المبكر لقافلة الإصلاحيين مناديًا بمبدأ “الكتاب المقدس وحده”.
وكعادة أهل ذلك الزمان، أُتهم ويكليف بالهرطقة، وأعلنوه لحضور مجلس تاديبي بدأ في فبراير 1337م. لكن لم يصدر المجلس بشأنهأية حرمانات، ومات ويكليف دون أن يصدر بحقه أية أحكام، ولكن بعد موته وبالتحديد في عام 1414م، وأثناء انعقاد مجمع كونستانس صدر قرارًا بابويًا بإدانته، وأمرًا باستخراج جثته وحرقها.
لقد استحق “ويكليف”، أن يُطلق عليه “كوكب صبح الإصلاح”، فلقد كان ويكليف مُصلحًا سابق عصره وزمانه.
- جون هس Jihn Huss
جون هس (1372 ـ 1415)، مفكر دينيني، وفيلسوف ومصلح تشيكي. ولد من أبوين قرويين. تعلم في جامعة تشارلز في براغ، وبعد حصوله على درجتي البكالوريوس والماجستر رسم كاهنًا عام 1401م، وقد صار فيما بعد “أب اعتراف” الملكة
صوفيا، كما عين أستاذًا في الجامعة وواعظًا في كنيستها المسماة بيت لحم، ولقد تأثر هس بتعاليم جون ويكليف المصلح الإنجليزي تأثير وضح في أعماله وكتاباته.
اقترح “هس” فكرة إصلاح الكنيسة في التشيك، واتبعه العديد من الناس في بلاده وانقسم تلاميذه إلى المعتدلين منه وقد أطلق عليهم “الهوسيتيين” بينما أطلق اسم “التابوريين” على أتباعه الراديكاليين ولقد رفض التابوريون أي إجراءات تتبعها الكنيسة لا يوجد لها أصل في الكتاب المقدس.
علم “هس” أن الكنيسة خرجت عن مبادئ الدين وأن بعض القساوسة والمطارنة انحرفوا عن واجبهم الحقيقي واهتمامهم بمصالحهم الشخصية واستغلالهم المادي للناس البسطاء. وكان “هس” أول من دعا إلى أن “البابا يمثل المسيح الدجال على الأرض، وأنكر كل مظاهر تقدم له”. كما علم “هس” بأن المسيح وحده هو الذي له حق الدينونة والغفران في الكنيسة، لذا نراه يهاجم بيع صكوك الغفران؛ ولظروف واضطرابات سياسية من جهة، ولقوة وصلاح تعليم هس من جهة أخرى، أصبح “هس” رمزًا للوطنية، ذو شعبية طاغية.
أتهم “هس” بالهرطقة، ودعى للمثول أمام محكمة الفاتيكان، لكنه لم يلب الدعوة، فأستدعي إلى مجمع كونستانس، مع وعد إمبراطوري بألا يمسه سوء، وسوف يعود بكامل الحرية والأمان، ولبى الدعوة، وفي المجتمع، واجهوه بتهمة الهرطقة، وكلبوا منه التراجع عن أفكاره وكتاباته، لكنه أجاب بهدوء: “لن أتراجع ما لم تبرهنوا لي أن ما قلته مخالف لكلمة الله”، وكان يقول: “إن الإيمان الصحيح بكلمة الله هو أساس كل الفضائل، مستشهدًا بأوغسطينوس الذي يكرمه جميع الحضور، وعندما واجهوه بأنه ينادي بتعاليم ويكليف، أجاب: “إن ويكليف كان مؤمنا حقيقيًا، وأن روحه الآن في السماء، وأنه لن يتمنى لنفسه راحة وأمنًا أكثر من راحة ويكليف وأمنه”. وانتهى المجمع بإدانته بتهمة الهرطقة في حضور لبابا يوحنا الثالث والعشرين، وألقوا به للنيران ليحترق على قائم خشبي في نفس اليوم، أي بتاريخ 6 يوليو من عام 1415م.
كان لجون هس تأثير كبير على حركة الإصلاح البروتستانتي وعلى مارتن لوثر نفسه، الذي كتب فيه قائلاً: “إذا أعتبر مثل هذا الرجل هرطوقيًا، إذًا لا يمكن أن يُنظر إلى أي إنسان تحت الشمس كمسيحي حقيقي”.
وإذ أثار موت “هس” صرخة شعبية في كل أنحاء بوهيميا، قدم أتباعه في عام 1420م، مطالب أطلق عليها “بنود براغ الأربعة”، وفيها يطالبون، بالتحرر من التضييق على التبشير والكرازة، تقديم العشاء الرباني بعنصريه للشعب، حيث كان الشعب محرومًا من التناول من الكأس، يلتزم الكهنة بأن يكونوا رعاة رسوليين بسطاء، يثعاقب عقوبة علنية كل من يُخطئ خطاءً مميتًا وخصوصًا السيمونية.
استمر أتباع “هس” على مبادئه، وكونوا فيما بعد الكنيسة المورافية، والتي اشتهرت بالعمل الُمرسلي، وكان من مرسليها إلى مصر الدكتور وليم هوكر William Hooker ، الذي جاء إلى مصر عام 1752م، واستمرت خدمة الكنيسة المورافية في مصر حتى نهاية القرن الثامن عشر.