أراء فكريةقضايا وأراء

السكر المُرّ

السكر المُر

إكرام لمعي

نشر فى : الأربعاء 12 أكتوبر 2011 – 9:20 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 أكتوبر 2011 – 9:20 ص

فى أحد البرامج التلفزيونية أخيرا فاجأتنى المذيعة بالقول: هل تعتقد أن موضوعا بسيطا قليل الشأن مثل هدم مضيفة كنيسة فى إحدى قرى إدفو بأسوان يستحق ما فعله المسيحيون حتى وصل الأمر إلى 25 ضحية و 213 جريحا، قلت لو تصورت أننا نريد أن نزن كيلو سكر (مكعبات)، نضع الكيلو الحديد على كفة ثم نبدأ فى وضع مكعبات السكر على الكفة الأخرى، ولو كان عدد مكعبات الكيلو ثمانين قطعة مثلا فحتى القطعة 79 تظل الكفة التى بها السكر غير متكافئة مع الكفة الأخرى لكن بمجرد وضع المكعب رقم ثمانين (يطب الكيلو) فهل يمكن القول إن المكعب الأخير وزنه يساوى كيلو؟!

 

إن وزن المكعب الأخير لا قيمة له ولا وزن لكن لأنه آخر ما وضع على الميزان لذلك بسببه تحركت الكفة وهذا بالضبط ما فعله حادث كنيسة قرية الماريناب فلو أخذناه بمفرده لكان حدثا تافها ضئيلا، والسؤال هنا ما الذى جعل مثل هذا الحادث الضئيل يتحول إلى انفجار يعم جمهورية مصر؟

 

إذا حاولنا الإجابة بطريقة علمية نقول إن أى حدث يقع يحدد مدى حجمه وقيمته وتأثيره ثلاثة عوامل فى منتهى الأهمية: التاريخ (الزمان) والجغرافيا (المكان) والإنسان.

 

أولا: التاريخ (الزمان)

 

يعود تسلسل هذه الحوادث منذ تأسيس مصر الحديثة على يد محمد على فى بداية القرن التاسع عشر، حيث أراد أن يجعل مصر تتساوى فى التحضر مع دول أوروبا فكون الجيش من المصريين وأسس مدرسة الطب وبدأ فى ترجمة القانون الفرنسى وألغى المحاكم العرفية وأسس فكر المواطنة بالمساواة بين جميع المواطنين فى الحقوق والواجبات، ولأنه لم يبن أحد من الحكام على ما أسسه محمد على، بدأ الميزان يميل إلى عدم المساواة بين الرجل والمرأة، الغنى والفقير، المسيحى والمسلم، اليهودى والبهائى..

 

وفى عام 1972 وقع حادث كنيسة الخانكة التى أحرقت وكون مجلس الشعب لجنة تقصى حقائق برئاسة د/ جمال العطيفى وكيل مجلس الشعب وقتئذ والذى أوصى فى تقريره بتشريع قانون دور العبادة الموحد لحل المشكلة، ومن يومها لم ير المشروع النور حتى اليوم وهكذا تكررت الأحداث المؤسفة وبكثرة.

 

وقامت ثورة 25 يناير وكان المسيحى والمسلم (يدًا واحدة ) ونجحت الثورة وبعد الثورة فوجئنا بحادث كنيسة صول بأطفيح وحادث قطع أذن مسيحى بقنا ثم إحراق كنيستى إمبابة، إلى أن أتينا إلى كنيسة ماريناب بأسوان وكانت هى قطعة السكر المر التى جعلت الكيلو يهبط (يطب).

 

ثانيا: الجغرافيا (المكان)

 

والمكان يعنى الحضارة التى نعيشها اليوم فى بلادنا من أقصاها إلى أقصاها وهى حضارة المحاكم العرفية والخطاب الدينى المتدنى وتعليم وإعلام رفض الآخر فقد انتشرت المحاكم العرفية فى الحوادث الطائفية بشكل خاص والمحاكم العرفية كانت تنتشر بين القبائل قبل تكوين الدولة الحديثة.

 

ثم الخطاب الدينى المتعصب الذى يرفض الآخر سواء بادعاء أن أتباعه هم أصل المصريين أم إدعاء أن دينهم يهيمن ويحكم على كل الأديان الأخرى أو بإرسال الآخر المختلف إلى جهنم والأتباع إلى الجنة أو بعدم الاعتراف بحق الاختلاف، أما التعليم والإعلام والفضائيات التى تبث من الداخل أو الخارج والتى تحض بصوره مفزعة على رفض الآخر فحدث عنها ولا حرج، لذلك عندما يمتزج التاريخ الملىء بالأحداث التى تنم عن عدم التحضر مع الحضارة (المكان) والتى فيها نتنسم كل يوم رفض الآخر من كل اتجاه تستطيع أن تدرك لماذا كان حادث قرية ماريناب قالب السكر المر.

 

ثالثا: الإنسان

 

وهنا نتحدث عن الإنسان الذى يحمل التاريخ على كتفيه ويعيش الحضارة المحيطة ويعمل على صنع مستقبل أفضل لهذه الحضارة، فأفضل تعريف للإنسان أنه حيوان تاريخى بمعنى أنه الكائن الحى الوحيد الذى يتعلم من أخطائه ويخطط لمستقبله، وهذه الصفات للإنسان هى التى تجعله يرتقى ويتطور ويصنع التاريخ وإذا تأملنا فى الإنسان الذى تعامل مع حادث قرية ماريناب وما تبعه من أحداث نلاحظ أنه يتزامن مع انسان ضيق الأفق متعصب، فالإنسان الذى يظن أن هويته ومستقبله يتلخص فى بناء مكان للعبادة والآخر يظن أن هدم المكان يسبب هويته وكرامته ويأخذ هذا النشاط معظم دخلهم المالى وفكرهم، ولو أن بيوت العبادة هذه أُلحق بها أو فى نصف مساحتها مدرسة أو مستشفى أو مصنع، أو استخدم ذات المكان فى أوقات غير العبادة لأنشطة أخرى كما يحدث فى الخارج فى الكنائس والمراكز الإسلامية، لتغير الأمر، ولاستطاع الانسان المتحضر أن يحول المبنى إلى معنى وليس العكس، فالتعلق بالمبنى دون المعنى أو البحث عن معنى فى هدمه يجعل المنتمين له والذين يرفضونه يعتبرون المبنى هو هويتهم وسر وجودهم ومستقبلهم وهكذا يريدون إزالته، وهنا يسيطر المبنى على الإنسان ويشكل طريقة تفكيره ونظرته للأمور بدلا من أن يسيطر الانسان على المبنى فيجعل كل ركن فيه له معنى خاص ويقدم خدمه خاصة، ولأن معظم المصريين يخضعون للمبنى كانت مشكلة بيوت العبادة، وأهميتها، لقد تعجبت جدا عندما سافرت إلى أوروبا من ثلاثين عاما ولاحظت أن قاعات الكنائس فى وسط الاسبوع تستخدم للعروض الموسيقية أو الفنية أو أى أنشطة لمن يؤجرها.

 

والمعركة التى قامت حول كنيسة قرية ماريناب توضح لنا العلاقة بين الانسان والمبنى، ليس هذا فقط فالمحافظ أو الرئيس الادارى للمنطقة الجغرافية التى بها الكنيسة كان لابد أن يكون له موقف مختلف فهو حاكم المنطقة ويحتاج أن يكون رئيسا لكل أطياف الشعب الذى يقوم بخدمته، لكنه تعجل فى تصريحاته وفى مواقفه، فقد صمم على أنه لا يوجد تصريح للكنيسة وكان عليه القول إنه حتى لو لم يوجد تصريح للكنيسة من حق الشعب القبطى أن يجد مكانا يعبد فيه مهما كان عدد أفراده، وهنا نجد الإنسان الذى تشكله الحضارة المحيطة ولا يتجاوزها هو بعد تشكيلها له، كنا بحاجة إلى محافظ صاحب رؤية يقوم بتطوير المجتمع المحيط ثم كان الإنسان متمثلا فى عصام شرف ووزارته، والمجلس العسكرى، لقد قرر المجلس العسكرى حماية الثورة، وأفهم أن حماية الثورة تعنى حماية مبادئها (الحرية ــ العدالة ــ المساواة ــ الديمقراطية) وأرى المجلس العسكرى والحكومة إنسانا يملك بين يديه السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية فى مرحلة انتقالية، وأرى هذا الإنسان يدير البلد فى المرحلة الانتقالية بنظرية إطفاء الحرائق، فكلما قام حريق فى مكان يهرع لإطفائه، وهذا هو تأثير اللحظة على الانسان وتشكيله من خلالها، اما إذا أراد الانسان أن يعيش اللحظة يحتويها ويتجاوزها فلا يحدث هذا إلا برؤية واضحة للمستقبل فكنا ننتظر من الإنسان الذى يحكمنا (الحكومة والمجلس) رؤية لما يجب أن يكون عليه مستقبل مصر فى المرحلة الانتقالية كمرحلة مهمة فى صنع المستقبل، ولأننا نفتقد كل ذلك تحول طعم السكر الذى أحسسنا بحلاوته فى 25 يناير إلى طعم مُر نتجرعه جميعا ودون استثناء.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى